رغم أننا لسنا في حاجة إلى التأكيد على أن العالم الذي نحياه الآن، بصدد ثورة علمية وتقنية عارمة وأنها أحدثت وسوف تحدث تغييرات حادة بمعدلات متسارعة، لم يشهدها المجتمع الإنساني من قبل، وذلك على جميع المستويات السياسية والاقتصادية، بل والثقافية أيضًا.. إلا أن ما نود الإشارة إليه، أن ما نعاصره ليس مجرد “ثورة”؛ بل هو ـ في حقيقة الأمر ـ ثورات ثلاث متداخلة ومتكاملة، في: الاتصالات والمعلومات والمرئيات.
ومن ثم، فإن ما نقصده باصطلاح “الثورة العلمية والتقنية”، في سياق حديثنا هذا، هو ذلك التكامل والتداخل في ما بين هذه الثورات الثلاث؛ على الأقل من منظور مدى التأثير الذي تمارسه هذه الأخيرة على كيفية المعرفة، التي تتيح، أو: يمكن أن تتيح، إدراكًا ووعيًا جديدين بالأشياء والظواهر والوجود الشامل الأشياء والظواهر معًا.
في هذا الإطار، لنا أن نُقارب المفارقة التي طبعت المواقف إزاء هذه الثورة؛ المفارقة التي تبدو، بوضوح، إذا لاحظنا اتفاق “الآراء” جميعًا على أن الثورة الحالية تختلف اختلافًا جوهريًا عن سوابقها، وأنها قد أصبحت بالفعل عاملًا حاسمًا في تحديد مصير عالمنا، دوله وأفراده، إلى الدرجة التي دفعت البعض للحديث حول أن “الثورة” الراهنة تفوق، في حجم آثارها، الثورات المميزة الثلاث في تاريخ البشرية، أي: الكلام، ثم الكتابة، ثم الطباعة.. لكن، في الوقت نفسه، تتعدد “الرؤى”، وتتباين، حول مؤثرات هذه الثورة وآثارها المرتقبة على المدى القريب والبعيد.
التفاؤل والتشاؤم
ضمن أهم هذه الرؤى.. اثنتان:
هناك رؤية بقدر ما تحمل من “التفاؤل”، إن لم نقل الانبهار بالحضارة الناتجة عن الثورة العلمية والتقنية عمومًا، وتقانة المعلومات بوجه خاص، والتي يمكن تسميتها بـ”الحضارة الإلكترونية”، بقدر ما تحمل، في الوقت نفسه، من الدعوة إلى اتخاذها عقيدة تقوم مقام المرتكزات العلمية والفكرية للمجتمعات (الصناعية الغربية المعاصرة).. ومن بين أهم الرموز التي تتبنى هذه الرؤية، عالم المستقبليات الأميركي ألفن توفلر (Alvin Toffler)، الذي بشر في كتاباته، وخصوصًا كتابه “تحول السلطة، 1990″، بإرهاصات هذه “الموجة الثالثة”، التي تشكل ـ في رأي توفلر ـ ثالث قطيعة جذرية في تاريخ البشرية، بعد الثورتين الزراعية والصناعية.
ومن بين هؤلاء (الرموز)، أيضًا، ماسودا (Masuda)، العالم الياباني في المستقبليات، الذي خرج علينا، في منتصف تسعينات القرن العشرين الماضي، مبشرًا بمدينة فاضلة جديدة، من خلال بحثه: “كمبيوتوبيا مجتمع المعلومات، 1995″؛ حيث رأى إن المجتمعات سوف تتغير تغيرًا جذريًا “حميدًا”، يتم بصورة متدرجة ومنهجية دون صراع أو نزاع، تغيرًا يقود إلى مجتمع لا طبقي، بلا نخبة، يحل فيه التعاون بدلًا من التنافس والتناحر.
إلا أن هناك، من جانب آخر، رؤية تحمل من “التشاؤم”، أو: الحذر، قدرًا يدفعها إلى إنذارنا بأنه رغم كون “تقانة المعلومات” خصوصًا، والثورة العلمية والتقنية بوجه عام، هي وسيلتنا في السيطرة على الظواهر المعقدة، وفي حل المشكلات التي نواجهها، أو يمكن أن نواجهها؛ إلا أنها، هي نفسها، قد أضافت بعدًا جديدًا يزيد معظم ظواهر حياتنا تعقيدًا، بل ويولد لنا مشكلات جديدة لم تكن في الحسبان.
إن فيلسوفًا مثل لويتارد (Loytard)، في كتابه: “شرط ما بعد الحداثة، 1994″، يُنذرنا بأن: “المعرفة، بصفتها سلعة معلوماتية لا غنى عنها للقوة الإنتاجية، قد أصبحت، وستظل، من أهم مجالات التنافس العالمي ـ إن لم تكن أهمها ـ من أجل إحراز القوة”.
بل، كما يضيف: “يبدو من غير المستبعد أن تدخل دول العالم في حرب من أجل السيطرة على المعلومات، كما حاربت في الماضي من أجل السيطرة على المستعمرات، وبعد ذلك من أجل الحصول على المواد الخام والعمالة الرخيصة واستغلالها.. لقد فُتِح مجال جديد أمام الفكر الاستراتيـﭽـي التجاري من جهة، والسياسي العسكري من جهة أخرى”.
تحذير لويتارد هذا، وإن كان يعتمد على نظرة فلسفية لآثار “الثورة” الراهنة وتداعياتها المستقبلية.. فإن هناك من يؤكد مثل هذا التحذير، أو “التشاؤم” بالأحرى، وذلك استنادًا إلى منظور “سياسي ـ استراتيـﭽـي”؛ نعني: ما كتبه الكثيرون حول أن تتمكن الولايات المتحدة الأمريكية من تدعيم هيمنتها على العالم، عبر قدرتها على التحكم في المنظومات المعلوماتية وتقنيات الاتصال؛ ذلك أن هذا المنظور “الجغراستراتيجي”، أو ما يمكن أن نعبر عنه بـ”الجغراستيا”، أصبح، برأينا، يتحدد بمدى الكفاءة في استخدام “القوة غير المادية”، أي: تقنيات الاتصال والمعلوماتية.
في هذا السياق، ترى: هل نرتكن إلى تصور بعض أصحاب الرؤية “المتفائلة”، في أن “التقانة كالماء والهواء” لاتقبل الاحتكار؛ وما دامت هي حصيلة تراكم النشاط الإنساني على مر العصور، فمن حق الجميع أن يستفيد من نتائجها.. أم: نقلق مع “المتشائمين”، وتوقعاتهم التي تتمحور حول أن “عصر المعلومات” ما هو إلا مرحلة جديدة من مراحل الصراع العالمي(؟!).
ولا عجب، والحال هذه، أن نتساءل حول إمكانات “التفاؤل”، خاصة إذا ما عرفنا أن التشاؤم هو “توقع السوء والجهل بأسباب منعه أو ردعه أو تلافيه”.
إشكاليات المعرفة
يستدعي هذا التساؤل الإشارة إلى السمات الرئيسة التي تتسم بها الثورة العلمية والتقنية، مقارنة مع سابقتها (الثورة الصناعية)؛ وذلك كخطوة للتعرف على الاحتمالات الأكثر “واقعية” لنتائجها.
وفي اعتقادنا، فإن هذه السمات ثلاث:
السمة الأولى: إن هذه الثورة تعمل على إلغاء “الأثر التقليدي” للتمايز الجغرافي وللحدود السياسية، التي كانت تشكل ضمانًا وشرطًا وعاملًا متميزًا ومستقلًا، في تكوين نمط الحياة والعمل في المراحل السابقة وحتى الثورة الصناعية (أى: عالم السيادة القومية)؛ وهو ما يعني: إن هذه الثورة تجنح إلى محاولة توحيد العالم في “إطار واحد”، أو تحديدًا تجنح إلى “العولمية”؛ وهو ما يتبدى بوضوح من خلال التغير، التدريجي، في معايير وأنماط السلوك والحياة والإنتاج في أرجاء كثيرة من المعمورة.
السمة الثانية: إن الأهمية المتزايدة والاستثنائية لهذه “الثورة”، تبرز من خلال وسائل الاتصال والمعرفة؛ وهو ما يعني: تحول “الثقافة”، بالمعنى الشامل للكلمة، إلى مركز الثقل في هذه الثورة، بكل ما يشير إليه ذلك، كما يؤكد برهان غليون في بحث له حول: “ثقافة العولمة، 1999″، من تحول الميدان الثقافي إلى ميدان مباشر، وأساس، للسياسات العلمية والاقتصادية والنفسية، من مثل: التركيز المتزايد على البحث العلمي، وعلى نظم التقنية، وعلى الأنساق المتكاملة لطرق الاتصال ونقل المعلومات.. إلخ.
السمة الثالثة: إن التدويل المتزايد للمجال الإنساني، يرتبط بالتفاوت النوعي.. ونقصد بهذا “التفاوت” أنه في الوقت الذي تتعرض فيه الإنسانية للتأثيرات الثقافية والمادية والاقتصادية نفسها، بحيث إن أي تبدل في مكان ما يؤثر ـ نسبيًا ـ على الجميع، فإن توزيع إمكانات وسائل النمو يزداد سوءًا يومًا بعد يوم، مما يخلق نوعًا من الاحتكار لعناصر “التقدم” من قبل البعض (الأكبر عدة، والأصغر عددًا)، ونوعاً متفاقمًا من التهميش الإنساني للبعض الآخر (الذي يكاد أن يشمل، الآن، القسم الأعظم من الإنسانية).. إلى الدرجة التي يمكن معها القول: إن الفئة الأولى كـ”مراكز قوى” تمارس ترتيب مواقع الجماعات والأفراد، بل والدول أيضًا، على أساس من ذلك “التفاوت”.
هذه السمات الثلاث: لا تؤكد، فقط، على ضرورة طرح التساؤل حول الفعل المناسب إزاء الثورة الراهنة، بما تمثله من تحدٍ لكثير من الشعوب والجماعات على مستوى العالم.. ولا توضح، وحسب، الملامح العامة لتداعياتها (الثورة)، على كافة المستويات.. بل، إضافة إلى هذا وذاك، تؤكد على أن من تسرعوا في اتخاذ المواقف إزاء هذه “الظاهرة” العالمية، شديدة التعقيد، غالبًا ما يقيمون وجهة نظرهم على أساس من الافتراضات المسرفة في بساطتها، أو: يركزون على الشق التقني لهذه الظاهرة، متعددة الأبعاد، بمعزل عن بيئة توطنها، تحاشيًا للدخول ـ عمدًا أو عجزًا ـ في متاهات الاعتبارات الاجتماعية.
وبالتالي، تراجعت على سلم الأولويات حقيقة كون الظاهرة، بالرغم من محركها التقني، هي، في واقع الأمر، قضية ذات أبعاد “سياسية ـ اقتصادية ـ ثقافية” في المقام الأول؛ بمعنى: إنها قضية تنتمي إلى المجال الذي تتفاعل فيه هذه الأبعاد.. أي: المجال “المجتمعي” (نقول: “المجتمعي” للدلالة على مختلف جوانب تركيبة المجتمع في شمولها، لا على الجانب “الاجتماعي” وحده).