أليس من الغريب أن تكون الفكرة السائدة عن النبي صلى الله عليه وسلم عند معظم المسلمين، أنه كان نبيا “أُميًا”، بمعنى أنه كان لا يعرف القراءة أو الكتابة؟ وأليس من الأغرب أن يكون هذا من دلائل الإعجاز لديه؛ أي: بما أنه “أمّي”، فهذا دليل دامغ على معجزته الكبرى، فهو لم يؤلف القرآن، ولم يأت به من عنده، بل هو كتاب الله سبحانه وتعالى الذي أنزله عليه؟
ثم ألم تكن هناك معجزة أخرى يمكن أن يتمسك المسلمون بها للبرهان على صدق القرآن الكريم، وإثبات أنه مُنزّل من عند الله سبحانه، سوى وصف الرسول عليه الصلاة والسلام بـ”الأمي”، بمعنى عدم المعرفة بالقراءة والكتابة؟
تتضمن تلك الفكرة الغريبة إذا تأملناها جيدا، قصورا حقيقيا في فهم آيات التنزيل الحكيم، التي ورد فيها لفظ “أمّي” ومشتقاته؛ حيث ساد المعنى الاصطلاحي لهذه الكلمة، بعد ورودها في كتب التفاسير كأحد المعاني المقصودة من قوله سبحانه: “الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ…” [الأعراف: 157]، وفهم البعض منهم أنه الرسول “الذي لا يقرأ ولا يكتب”. بل، ازداد الأمر التباسًا عندما وصفت الأمة كلها بـ”الأميين”، في أكثر من موضع من آيات التنزيل الحكيم، مثل قوله تعالى: “هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ…” [الجمعة: 2]
هنا ازداد الأمر التباسًا عند معظم المفسرين؛ لأن الرسول -عليه الصلاة والسلام- بُعث وسط العرب الذي اشتهروا بالبلاغة والفصاحة، والأكثر أهمية أنه بُعث في “أُمَّ الْقُرَى” مكة مكان البيت الحرام، التي كانت مركزا لتجارتهم وأنديتهم، وملتقاهم الثفافي والحضاري الأهم، وكان من بينهم كثير من الذين يقرأون ويكتبون؛ بل، قد تكون نسبة الذي يقرأون ويكتبون من تلك الأمة حينذاك، تزيد على مثيلاتها من الأمم المعاصرة لها.
هذا عن “أُمَّ الْقُرَى” فماذا عن “وَمَنْ حَوْلَهَا”؟ كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: “وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ” [الأنعام: 92]. بل إن “وَمَنْ حَوْلَهَا” بالنسبة إلى “أُمَّ الْقُرَى” لا تعني الدوائر القريبة منها فقط؛ ولكن من حيث الدلالة، تؤشر إلى “النَّاسُ جَمِيعًا…”؛ أي إن الرسول -عليه الصلاة والسلام- بُعث للناس كافة، وليس لقريش أو العرب فقط؛ فهو ليس كغيره من الرسل والأنبياء الذين بُعث كل منهم لقومه وحسب، وذلك كما جاء في قوله تعالى: “قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا…” [الأعراف: 158]
وبالتالي لا يجوز أن نفهم أن الناس جميعهم، في زمن “البعثة” أميون بالمعنى الذي ود بعضهم أن يسود، إذ واقعيا ولسانيا لا علاقة لمصطلح الأمّي، قرآنيا، من قريب أو بعيد بمعرفة القراءة والكتابة أو عدم المعرفة بهما.
خطأ التفسير
رغم ذلك ساد المصطلح بمعناه الخاطئ عند كثير من المفسرين، الذين لم يستطع الكثير منهم التوصل إلى الفروقات بين المعاني والمدلولات؛ ذلك الذي جاء بسبب عدم تمكنهم من “اللسان العربي” الذي كان بالنسبة لكثير منهم “اللسان الثاني”.
وللأسف فقد جاءت الأجيال التالية لتعتمد منهج النقل عنهم، دونما محاولة لتصحيح المفاهيم الخاطئة والمغلوطة في التفاسير الأولى لآيات التنزيل الحكيم.
لنلاحظ ما كتبه البعض ممن تصدى لتفسير قوله سبحانه وتعالى: “الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ…” [الأعراف: 157]
يقول السعدي في تفسيره للآية “ووصفه بالأمّي، لأنه من العرب الأمة الأمية التي لا تقرأ ولا تكتب، وليس عندها قبل القرآن كتاب”.
ويؤكد ابن كثير ذلك، فيقول في سياق تفسيره للآية: “وهذه صفة محمد -صلى الله عليه وسلم- في كتب الأنبياء، بشروا أممهم بمتابعته، ولم تزل صفاته موجودة في كتبهم يعرفها علماؤهم وأحبارهم”.
أما القرطبي فيقول: “قوله تعالى “الأمّي” هو منسوب إلى الأمة الأمية، التي هي على أصل ولادتها، لم تتعلم الكتابة ولا القراءة”. وذكر البغوي: “أي هو على ما ولدته أمه”.
ثم يأتي الرازي ليؤكد بأن: “كونه أمّيا؛ قال الزجاج معنى ”الأمّي“ الذي هو على صفة أمّة العرب. قال -صلى الله عليه وسلم-”إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب“، فالعرب أكثرهم ما كانوا يكتبون ولا يقرأون، والنبي-صلى الله عليه وسلم- كان كذلك، فلهذا السبب وصفه بكونه أميًا. قال أهل التحقيق وكونه أميًا بهذا التفسير كان من جملة معجزاته وبيانه”.
ولا ندري من أين جاء الرازي، مثله في ذلك مثل السعدي وابن كثير والقرطبي، بهذه الثقة التي يتحدث بها عن العرب، كأمة أكثر أفرادها “ما كانوا يكتبون ولا يقرأون” ومن أين استقى معلوماته التي يتحدث عنها هو وغيره؟ والأهم من هم “أهل التحقيق” الذين ينقل عنهم ويستند إلى أقوالهم. أيضا؟ لا ندري لماذا يتبنى الكثيرون تأويل الزجاج للفظ “الأُمّي” من حيث إنه: “الذي هو على خلقة الأَمَة لم يتعلم الكتاب، فهو على جبلته” إذ إن هذا الزجاج، المتوفي سنة 310 هـ، ليس من جامعي اللغة، وهو ـ كما يبدو من تعريفه للفظ الأمّي ـ قد تبنى تأويلًا خاطئًا لهذا اللفظ بأنه نسبه إلى الأم، ثم تأويلًا آخر بأن يكون على الحال التي ولدته عليها أمه!
وفي ما يبدو، فإن ما تمدنا به المعاجم عن لفظ “أمِّي” من أنه “على جبلة أمّه لا يقرأ ولا يكتب”، هو اجتهاد خاطئ؛ فقد أدخله ابن منظور، المتوفي سنة 711 هـ، في “لسان العرب” اعتمادًا على اجتهاد الزجاج الخاطئ.. هذا رغم أن لفظ “أمِّي” هو لفظ مُعَرّب لا أصل له في اللغة، والأكثر صحة أن يسند إلى الأمة وليس إلى الأم؛ إذ كما يُقال: “عامي نسبة إلى العامة، التي لم تتميز بما تمتاز به الخاصة”.
وبالتالي، نعيد ونُكرر بأنه لا يجوز أن نفهم “أمِّي” بالمعنى الذي ود بعضهم أن يسود، إذ واقعيًا ولسانيًا لا علاقة لمصطلح “الأمِّي”، قرآنيًا، من قريب أو بعيد بمعرفة القراءة والكتابة أو عدم المعرفة بهما.
المصطلح القرآني
يؤكد ذلك دقة المصطلح القرآني، من حيث التعبير ومن منظور الدلالة؛ إذ إننا نجد مثل هذه الدقة في أكثر من موضع من آيات التنزيل الحكيم. فعندما يصف القرآن قومًا بأنهم “قَوْمَ سَوْءٍ”، لا بد أن يكون هؤلاء القوم “أَجْمَعِينَ” قوم سوء؛ كما في قوله سبحانه: “وَنَصَرْنَاهُ مِنْ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ” [الأنبياء: 77].
فالآية تُخبرنا بأن هؤلاء القوم هم “قَوْمَ سَوْءٍ”، وتُفيد بهلاكهم “أَجْمَعِينَ” بالغرق. ولنا أن نلاحظ، هنا في هذه الآية، كيف ورد لفظ “أَجْمَعِينَ” ولم يأت “جميعًا”، من حيث إن هناك استثناءً، يخص “أهل نوح”، ورد في الآية السابقة على هذه الآية؛ إذ، يقول تعالى: “وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنْ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ” [الأنبياء: 76]. ومن ثم فإن “جميعًا” هي إشارة للكل، في حين يدل لفظ “أَجْمَعِينَ” على الجزء؛ أي: “الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا”، وليس كل قوم نوح، لأن هؤلاء من بينهم “نُوحًا… وَأَهْلَهُ”.
وفي موضع آخر، يأتي وصف “قَوْمٍ مُجْرِمِينَ” في قوله سبحانه وتعالى: “قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ٭ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ” [الذاريات: 31-32]؛ وهنا أيضًا نجد أن وصف “قَوْمٍ مُجْرِمِينَ” تدل على عموم صفة الإجرام بين هؤلاء القوم. فإذا كان هناك استثناءً يحتاج إلى بيان وإيضاح، نجد أن التنزيل الحكيم يوضح ذلك ويؤكده؛ كما في قوله سبحانه: “فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ٭ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ” [الذاريات: 35-36] وكذلك، في قوله تعالى: “فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنْ الْغَابِرِينَ” [الأعراف: 83]
وبالتالي، يمكن القياس على ذلك بأن التنزيل الحكيم إذا وصف الأمة التي بعث منها وفيها، الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم- بـ “الْأُمِّيِّينَ” فلا بد أن يكون أفرادها “جميعًا” متصفين بـ”الأمية” على الإجمال وبدون استثناء، وذلك بحسب منطوق الآية: “هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ…” فإذا كانت صفة “الْأُمِّيِّينَ” تعني في التنزيل الحكيم، عدم القدرة على القراءة والكتابة، كان لا بد للقرآن الكريم أن يُخبرنا بأن هناك استثناءً في أمة محمد، عليه الصلاة والسلام؛ وذلك لسبب بسيط، أننا نعرف، يقينًا، أن كتبة الوحي من الصحابة وغيرهم نماذج من أمته، وأنهم كانوا يقرأون ويكتبون.. لكن التنزيل الحكيم شملهم جميعًا بصفة “الْأُمِّيِّينَ”.
وهكذا.. نستنتج أنه من المستبعد أن يكون المقصود من اصطلاح “النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ”، أنه النبي الذي لا يقرأ ولا يكتب؛ كما أنه من المستبعد، أيضًا، أن “الْأُمِّيِّينَ” تعني الذين لا يقرأون ولا يكتبون.