فن

البلبل الباكي “عبد الغني السيد” وتراث خالد من الأغنيات (6)

بعد أن قمنا في المقالات السابقة بتسليط الضوء على عددٍ لا بأس به من أغنيات بلبل مصر الشادي “عبد الغني السيد” (العاطفية والشعبية والاجتماعية والدينية والوطنية)، سنتوقف الآن عند قصائده المغناة والتي تعاون فيها مع نوابغ الشعر العربي في مصر والوطن العربي مثل: أمير الشعراء أحمد شوقي، والشاعر الكبير علي الجارم، والشاعر اللبناني إلياس فرحات، والشاعر السوري عمر أبو ريشة.

لم يكن البلبل الشادي عبد الغني السيد، مطربًا يمكن حصره في لون غنائي واحد، كما إنه لم يكتفِ بالغناء بالعامية المصرية؛ بل أنشد العديد من قصائد الفصحى، كان منها العاطفي والديني والوطني. ومن قصائده العاطفية قصيدة (قالوا له روحي فداه) من نظم أمير الشعراء أحمد شوقي [1868-1932] وألحان الموسيقار رياض السنباطي [1906-1981]، والتي غنَّاها بعنوان: (قولوا له روحي فداه).

قولوا لَهُ روحي فِداهُ هَذا التَجَنّي ما مَداهُ، أَنا لَم أَقُم بِصُدودِهِ حَتّى يُحَمِّلُني نَواهُ، تَجري الأُمورُ لِغايَةٍ إِلا عَذابي في هَواهُ، سَمَّيتُهُ بَدرَ الدُجى وَمِنَ العَجائِبِ لا أَراهُ، وَدَعَوتُهُ غُصنَ الرِياضِ فَلَم أَجِد رَوضًا حَواهُ، وَأَقولُ عَنهُ أَخو الغَزالِ وَلا أَرى إلَّا أَخاهُ، قالَ العَواذِلُ قَد جَفا ما بالُ قَلبِكَ ما جَفاهُ، أَنا لَو أَطَعتُ القَلبَ فيــهِ لَم أَزِدهِ عَلى جَواهُ، وَالنُصحُ مُتَّهَمٌ وَإِن نَثَرَتهُ كَالدُرِّ الشِفاهُ، أُذُنُ الفَتى في قَلبِهِ حينًا وَحينًا في نُهاهُ.

أما الموسيقار محمود الشريف [1912-1990] فقد لحَّن للمطرب الشادي عبد الغني السيد قصيدة (يا عروس الروض يا حمامة) كلمات شاعر العروبة في المهجر الشاعر اللبناني إلياس فرحات [1893-1976]. وقد غنَّى تلك القصيدة فيما بعد مطربون عرب بألحان مختلفة وكان منهم: طلال مداح، ومحمد عبده، وعبادي الجوهر، وسراج عمر، والموسيقار الكويتي عبد الله فضالة، والفنان السوداني كمال ترباس؛ ولكن جميعهم لم يبدعوا فيها بقدر إبداع صنَّاعها الأصليين.

يا عروس الروض يا ذات الجناح يا حمامة، سافري مصحوبة عند الصباح بالسلامة،  واحملي شوقَ فؤادٍ ذي جراحٍ وهُيامه، أسرعي من قبل يشتد الهجير بالنّزوح، واسبحي ما بين أمواج الأثير مثل روحي، فإذا لاح لكِ الروضُ النضير فاستريحي، رفرفي في روضة الأفق النضير وتغني، وانظري محبوبتي عند الأصيل وتأني، فهي إن تسألك عن صبٍ عليل كان عني، خبريها إن قلب المُستهام ذاب وجدًا، واسأليها كيف ذيَّاك الغرام صار صدًّا، فهُيامي لم يعد بعدُ هُيام بل تعدَّى، ذكِّريها بأويقات اللقاء والتصابي حين كنا كل صبحٍ ومساء في اقترابِ، علَّ باستذكاري لي بعض الشفاء من عذابي.

ومن كلمات الشاعر السوري عمر أبو ريشة [1910-1990] وألحان عالم الجيولوجيا والموسيقار المصري الدكتور يوسف شوقي [1925-1987] أنشد عبد الغني السيد القصيدة الرائعة ذات اللحن الرشيق (في موسم الورد).

هنا في موسم الوردِ تلاقَيْنا بلا وَعْدِ، وسِرْنا في جلال الصمتِ فوق مناكبِ الخُلْدِ، (وفي ألحاظنا جوعٌ على الحرمان يستجدي! وأهوى جيدَكِ الريَّانَ متكئًا على زِندي، فكُنا غفوةً خرساء بين الخَدِّ والخَدِّ)، أُسَائِلُ عنكِ أحلامي وأُسْكِتُها عن الردِّ، أردتِ فنلتِ ما أُمَّلتِ مَن عِزّي ومن مجدي، فأنتِ اليوم ألحاني وألحان الدُّنى بَعْدي، مُنَى قلبي .. أرى قلبكِ لا يُبقي على عهدِ، فما أقصرَه حُبَّا تلاشى وهو في المَهْدِ، فهذا الورد ما ينفك فوق غصونه المُلد، ولم أبرحْ هنا .. في ظل هذا المّلتقى وحدي.

ويُذكَر عن الفنان الكبير عبد الغني السيد، أنه كان ودودًا وعاطفيًّا ورقيق المشاعر، فكان يحرص على جبر خواطر الضعفاء والمحتاجين، كما كان مجاملا لزملائه؛ ولذلك كان محبوبًا من الجميع، خاصة لما كان يتمتع به من خفة ظل وحسن خلق، ولقد كلفته مساندته لأصدقائه حياته إذ تحامل على نفسه في آخر أيام حياته بالرغم من مرضه كي يقف بجوار الفنانة تحية كاريوكا، عندما لجأت إليه بسبب الخلافات بينها وبين زوجها الفنان فايز حلاوة، فأصابته أزمة قلبية بسبب الانفعالات التي حذَّره الأطباء بالابتعاد عنها؛ فلقي ربه وهو في الرابعة والخمسين من عمره، تاركا أبناءه الصغار بلا عائل.

 أما القصائد المتنوعة الأخرى التي شدا بها البلبل المصري عبد الغني السيد، فكان منها قصيدة تحمل معاني الأمل والإقبال على الحياة، بعنوان (ليلنا الأزرق) كلمات الشاعر الغنائي مرسي جميل عزيز وألحان الموسيقار علي إسماعيل.

ليلنا الأزرقُ حُلمُه أشرقُ بالأماني العِذاب في ربيع الشباب، ليلنا الأزرق كيف لا يُعشَقُ؟! في جبين السماء أمنياتٌ وُضاء ما لهنَّ انتهاء والمُنى تشرِقُ بالأماني العِذاب في ربيع الشباب، ليلنا الأزرق كيف لا يُعشَقُ؟! مرحبًا مرحبا في فتون الصبا مَركبًا مُذهَّبا وخُطى تخبط بالأماني العِذاب في ربيع الشباب، ليلنا الأزرق كيف لا يُعشَقُ؟!

وللصباح وإشراقه وزهره المبتسم وطيره الشادي أنشد عبد الغني السيد قصيدة (الصبح بدا) كلمات إمام الصفطاوي وألحان عبد الحميد توفيق زكي [1917-1998].

الصُّبح بَدا والطير شَدا لعُيون الزَّهر المُبتسم، فالكوْن مُنى والحُسن هنا يوحِي بالشعرِ وبالنغم، الكوْن مُنى فتأمل إشراق الصور والحسن هنا يسمو بالروح وبالفِكَرِ، آياتٌ جلَّت بالصنع فتغنَّى معي، واهتف للنور المنسدل مثل الذهب، وانعم بالشمس ولا تنمِ، الكوْن مُنى يدعوك لفردوس الوادي والحسن هنا مِلْكٌ للرائح والغادي، والرزق يُهلل يا صاحي أنا للصاحي، والنائم لا يجني شيئًا هيا هيا، واملأ كفيك من النعم فالصبح بدا والطير شدا لعيون الزهر المبتسم، فالكوْن مُنى والحسن هنا يوحي بالشعر وبالنغم.

كما أنشد الفنان الراحل عبد الغني السيد من القصائد الدينية قصيدة (تبسَّم ثغر الصبح عن مولد الهدى) وهي من نظم الشاعر الكبير علي الجارم [1881-1949]، وقد جادت بها قريحته في ذكرى مولد الرسول الكريم عام 1948، وكان عنوانها (أبا الزهراء)، وقام بتلحينها الموسيقار محمد القصبجي [1892-1966].

تبسَّم ثغرُ الصبحِ عن مولدِ الهُدى، فللأرضِ إشراقٌ به وزُهَاءُ، وعادت به الصحراءُ وهي جديبة عليها من الدينِ الجديد رُوَاءُ، بدا في دُجى الصحراء نورُ محمدٍ وأشرق في الصحراء منهُ نِداءُ، نبيٌّ به ازدانت جوانب مكةٍ وعزَّت به أم القرى وحِراء، دعاهم لربٍّ واحدٍ جلَّ شأنه له الأمرُ يولي الأمرَ كيف يَشاءُ، دعاهم إلى نبذِ الفَخارِ وأنهم أمامَ إله العالمينَ سَواءُ، دعاهم إلى أن ينهضوا بِعُفاتهم كِرامًا فطاحَ الفقرُ والفقراءُ، دعاهم إلى القرآنِ نورًا وحكمةً وفيه لأدواء الصدورِ شِفاءُ، نبيَّ الهدى قد حرَّق الأنفسَ الصدَى ونحن لفيضٍ من يديك ظِمَاءُ، أفِضْها علينا نفحَةً هاشميةً يُلَمُّ بها جُرحٌ ويبرأُ دَاءُ، فليس لنا إلَّا رِضَاك وسيلةٌ وليس لنا إلَّا حِماكَ رَجاءُ.

أما قصائده الوطنية فمنها قصيدة (نداء الوطن) التي يقول مطلعها “دعا الداعي فلبينا نؤدي للحِمى دَيْنــــا” كلمات الشاعر الكبير عبد الله شمس الدين وألحان الموسيقار محمود الشريف. وله أيضًا قصيدة (بغداد) – يا بلد الرشيد ومنارة المجد التليد – من نظم الشاعر الكبير علي الجارم وقد تغنى بها في منتصف القرن الماضي وكانت من ألحان الموسيقار الفلسطيني رياض البندك [1924-1992].

بَغْدَادُ يَا بَلَد الرَشِيدِ وَمَنَارَةَ الْمَجْدِ التَّلِيدِ، يَا بَسْمةً لَمَّا تَزَلْ زَهْرَاءَ في ثَغْرِ الْخُلُودِ، يَا مَوْطنَ الْحُبِّ الْمُقِيــمِ وَمَضْرِبَ الْمَثَلِ الشَّرُود، يَا سَطْرَ مَجْدٍ لِلْعُرُوبَةِ خُطَّ في لَوْحِ الْوُجُودِ، يَا زَهْرَةَ الصحْراءِ، رُدِّي بَهْجَةَ الدنْيَا وزِيدِي، يا أمة العرب اركضي ملء العنان ولاتهيدِي، سودِي فآمال المُنى والعبقرية أن تسودِي، هذا آوان العَدوِ لا الإبطاء والمشي الوئيدِ، المجدُ أن تتوثبي وإذا وثبتِ فلا تحيدِي، وتحلقي فوق النجوم بلا شبيهٍ أو نديدِ، وإذا شدا الكوْنُ المَفاخِرَ كنتِ عنوان النشيد، لا تخطئي حد العُلا ما للمعالي من حدود.

إن عبد الغني السيد –رحمه الله– ليس هو الفنان الذي من الممكن أن يطوي النسيان  صفحة أعماله الغنائية، أو أن يهجرها كل محب للفن ومتذوق للأصيل منه؛ فبلبل مصر “الشادي” سيظل مشواره الفني – برغم فقدان الكثير من أغنياته- علامة بارزة من علامات الغناء في هذا البلد العريق الذي يجب ألَّا تخبو شعلته الوضاءة، أو يخفت توهجها؛ وذلك كي تظل المنطقة العربية بأكملها ذات وزن وقيمة بين دول العالم.

نيفين عبد الجواد

كاتبة وباحثة مصرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock