بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري، نقلا عن صحيفة الكرامة المصرية
الخسارة الكبيرة التي مُنِيَت بها الحركة الوطنية المصرية وحركة اليسار التقدمي المصري عموما والحركة الناصرية في العالم العربي خصوصا – بوفاة المناضل أمين إسكندر هي أكبر بكثير من مجرد غياب مناضل كبير واستثنائي.
فهي خسارة لسبيكة نادرة؛ عادة ما تأخذ الشعوب والحركات السياسية المناضلة سنينا طويلة؛ حتّى تستطيع أن تنجب وتصهر سبيكة ثمينة مثلها مرة أخري.
إذا كان هناك من امتداد للوزير والمحامي الشهير مكرم عبيد، أهم شخصية سياسية قبطية في تاريخ مصر الحديث في المئة عام الأخيرة فهو أمين إسكندر.. وإذا كان مكرم عبيد هو أول من بَلْوَرَ فكريا، ببلاغته وخُطبه السياسية في أربعينيات القرن الماضي، قضية عروبة الأقباط المصريين، وأنهم مثلهم مثل المسيحيين العرب في المشرق، مشاركون في تأسيس العروبة والرابطة القومية، وفي تأسيس نظرية الفكر القومي العربي؛ فإن أمين إسكندر كان أهم سياسي مسيحي مصري في الدفاع عن إرث مكرم عبيد، في التمسك بالهوية العربية لمصر وأقباطها، في مواجهة تيار الانعزالية الشوفيني الذي أطلقه الرئيس أنور السادات ضد عروبة مصر وقيادتها لأمتها.
وهو تيار، كما شهد ارتدادا للدولة المصرية عن خط مصر الوحدوي في الخمسينات والستينات، شهد معه ارتدادا مماثلا من البرجوازية القبطية الكبيرة عن البعد العروبي، مستفيدة من كراهية السادات للمشروع الناصري، وانكفأت هذه البرجوازية الكبيرة عن التوجه العروبي لمكرم عبيد بادعاء أن تأميمات يوليو الاشتراكية، استهدفتها أكثر من غيرها من قطاعات الرأسمالية المصرية الكبيرة، وهو ما كذّبته كل الدراسات الاقتصادية الجادة.
وحده في الحياة السياسية، ومنذ أوائل السبعينات – وقف أمين إسكندر أمام هذا التيار بشجاعة مذهلة. وبينما اكتفي كثير من مُجَايليه من تلامذة العلامة وليم سليمان قلادة، بالنضال من أجل المواطنة المصرية، وهو نضال بالغ الأهمية وطنيا وتاريخيا؛ فإن أمين جمع بين ذلك والنضال من أجل المواطنة العربية؛ معتبرا نفسه مواطنا عربيا قوميا وحدويا، وليس فقط مواطنا مصريا كامل الحقوق والواجبات.
تستطيع أن تعد مئات وآلاف من الشخصيات الفكرية والسياسية القبطية -خاصة في معسكر اليسار- التي أغنت السياسة والثقافة والفن والطب والمجتمع المدني في مصر، في الخمسين سنة الأخيرة؛ ولكنك لن تجد سوي أمين إسكندر واحد، يناضل من أجل فلسطين، كما يناضل من أجل مصر، ويقاوم التطبيع مع إسرائيل في العالم العربي، كما يقاوم الانفتاح الاقتصادي في مصر، ويناضل ضد الغزو الأمريكي للعراق، كما يناضل ضد الاستبداد في مصر… إلخ.
في سبيكة نادرة أخرى.. كان أمين متفردا ومستقلا في علاقته مع كنيستنا الوطنية الأرثوذكسية العريقة، فأمين المسيحي المتدين لم يكن جزءا نشطا مما يعرف بالتيار العلماني المسيحي الذي يطالب بتقليص نفوذ الكنيسة في المجال العام والسياسي، وإبقائه في المجال الروحي والكنسي، ولكنه كان مستقلا عن الكنيسة عندما يتعلق الأمر بالمواقف السياسية. فلم يكن أمين مستعدا للتضحية بمبادئه بوصفه قوميا عربيا ناصريا ومناضلا يساريا منحازا للعمال والفلاحين والفقراء- أمام آبائه الروحيين إذا شعر أن الكنيسة بَدَرَ عنها مواقف تتعارض مع عروبته أو اشتراكيته.
في ثورة الخامس والعشرين من يناير، لم يتردد أمين في نقد موقف الكنيسة الأولي من عدم الترحيب بالثورة، وعدم الترحيب بمشاركة الأقباط، مثلهم مثل ثمانية عشر مليون مصري نزلوا إلي ميادين مصر وشوارعها، تماما كما لم يتردد رفاقه المسلمون في نقد موقف أولي مماثل للأزهر الشريف “وهو موقف عدلت المؤسستان الدينيتان الكبيرتان عنه بعد وقت قصير”.
في السياسة والنضال كان أمين إسكندر سبيكة ثالثة لوحده، فكأن بهذا المسيحي الطيب الذي آمن بأنه مسيحي دينا ومصري شخصية وعربي هوية، وأنه جزء لا يتجزأ من الحضارة العربية الإسلامية التي شارك في صنعها – منذ الدولة الأموية وعلي قدم المساواة- المسيحيون العرب، كأنه يتمثل قول رسول الإسلام “اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين” فعلى كثرة علاقاته الدولية والعربية وعلي كثرة الاغراءات التي تتاح للسياسيين في عالمنا العربي؛ لكي يتحولوا إلي الثراء ورفاهية العيش ظل “أبو فادي” قابضا علي الجمر، يعيش علي القليل في مسكن بسيط لا يتغير ولا يتبدل ولا يتكسب؛ حتي من نشر كتبه التي أضاءت طرق الوعي، لثلاثة أو أربعة أجيال؛ تتلمذت علي يديه.
كان الصحفيون والإعلاميون شهودا علي نزاهته ونظافة يده، إذ كانت تأخذهم المفاجأة والإعجاب بهذا المفكر الكبير عندما يذهبون لبيته – في حي شبرا الشعبي الذي لم يغادره يوما- وذلك لإجراء مقابلات معه؛ فيجدون هذا الأثاث البسيط وهذا النمط المتقشف في العيش.
لقد مَكّنَ هذا الاستغناء والتعفف أمين إسكندر من أن يبقي مستقلا حتي عن تياره الناصري العام؛ فمارس حقه المشروع حتّى آخر لحظة في حياته، فعبّر من خلال كتاباته علي شبكات التواصل الاجتماعي عن رأيه الناقد والمعارض لما “يحدث في مصر الآن” مع دعواته القلبية لكل رفاقه، أن ينجحوا في انتزاع أي مكسب ديمقراطي أو اجتماعي عن طريق الحوار.. خسارة مصر والنضال العربي في أمين، خسارة يصعب تعويضها.