فن

فيلم “الباب الأخضر”.. عن محو الهوية واستهداف الذاكرة الوطنية!

عُرض على إحدى المنصات منذ أيام، فيلم “الباب الأخضر” عن قصةٍ للكاتب الراحل أسامة أنور عكاشة، ومن تصوير وإخراج رؤوف عبد العزيز، والبطولة لإياد نصّار وسهر الصايغ وخالد الصاوي.. وآخرين.

أعاد إلينا الفيلم حضور الكاتب الأهم في تاريخ الدراما المصرية؛ لذلك ربما سيطرت حالة من “النوستالجيا” على المتلقين مع بدء المشاهدة.. مع احتشاد كل شخصية بالكثير من التفاصيل التي ربما لا يتسع لها زمن الأحداث في الفيلم؛ فالشخصية الرئيسة في العمل الدكتور شفيع مهنى ذو الأصول الصعيدية الذي يعمل بتدريس الطب النفسي بالجامعة، ويعاني معاناة شديدة بسبب هروب زوجته الأجنبية وهي حامل في ابنه إلى خارج البلاد- تفاقمت أزمته بعد علمه أن المولود أطلق عليه اسم غير عربي، ولم ينسب له.. في إشارة لفكرة محو الهوية التي يؤكد العمل على خطورتها منذ البداية.

وأمام هذه الحالة من الضياع التي يعيش فيها البطل- نجده يتردى في هاوية أخرى، بعد اقترانه بشقيقة زميل له بالقسم؛ فإذا به يتبين أن الزميل وأخته يعملان ضمن مجموعة تجرى أبحاثا خارج القانون على عقار طبي يمحو مشاعر الإنسان تجاه أقرب الناس إليه ويصيبه بالتبلد، ومن ثُم فقدان الهوية.. فإذا بشفيع يرفض ذلك ويحصل على أوراق تكشف المخطط، فيوقعه الزميل في مشكلة بالكلية للضغط عليه، وينتهي الأمر بمثولهما أمام النيابة العامة، بعد إبعاد شفيع عن العمل بالكلية إلى مستشفى الأمراض العقلية، وهناك يبدأ صفحة جديدة في مواجهته لهذه المجموعة دفاعا عن المرأة “الضحية” عيشة عبد التواب التي جيء بها إلى المستشفى لكتابة تقرير عن حالتها العقلية بعد محاولة فاشلة لاختطاف وليدها الذي لم تُسَمّه، ولم تستخرج له شهادة ميلاد؛ لأن الوليد ثمرة زواج عُرفي من شخص يدعى أحمد أبو اليزيد، حلّ هاربا على قريتها في ضيافة صديق له.

كل ما تملكه عيشة، ورقة مقطوعة من جريدة بها صورة هذا الشخص؛ لكن كل من يرى الصورة يؤكد أنها صورة شخص آخر هو رئيس التحرير المشهور محمود الأنصاري.. وللمرة الثانية يضيق الزمن بتفاصيل الأحداث.. فمتى التقى هذا الشخص أيا كان اسمه بعيشة؟ ومتى تزوجا عرفيا؟ ومتى حملت ومتى أنجبت؟ وكيف وصل بهذا الشخص الحال إلى تبوّؤ هذا المنصب، بعد أن كان طريدا.. الذي يطرحه الفيلم يشير إلى أن تلك الأحداث جرت فيما لا يتجاوز العام.. والإيحاء الفني يرمي إلى مرور زمن قد يمتد لعقد؛ خاصة أن الخديعة التي تعرضت لها الفتاة تمت في غيبة أخيها الوحيد المغترب في الخليج.. في حضور شيخ القرية الطيب المسالم حسن النية الذي لم يرع الأمانة التي تركها في عنقه الشقيق المسافر للبحث عن لقمة العيش.

يتصاعد الصراع داخل المستشفى في وجود مدير المستشفى المتواطئ الدكتور عباس مع المجموعة التي يحاربها شفيع؛ بعد استهداف عيشة لتكون ضمن من يحقنون بالعقار الذي ينسيها -مع أول جرعة- وليدها الذي أُخِذَ منها.

مع تصاعد الأحداث نكتشف أن شفيع هو النسخة الأحدث من عباس الذي دفع ثمن ممانعته غاليا؛ ليحبس داخل خوفه ورغبته في نسيان مأساته.. بينما يُصر شفيع على مواصلة الطريق؛ لإدراكه خطورة أمر تلك الأبحاث ومراميها التي لا تغيب عن ذي لُب.

يترك لنا المؤلف “الباب الأخضر” في نهاية العمل مفتوحا على أكثر من احتمال، بمراجعة أحمد أبو اليزيد لضميره، ويقينه بفداحة الثمن الذي دفعه مقابل ما ألقي إليه من فتات خسر معه نفسه، بعد أن أصبح أداة تغتال الوطن في أعز ما ليده.. وعيه وذاكرته.

كذلك وصول الدليل الدامغ على حدوث هذه الجريمة النكراء التي تستهدف محو الهوية- إلى اليد التي لم تفرط ولم تخضع (جلال منصور) رغم الأهوال التي رآها- يجعل باب الأمل الأخضر مفتوحا على احتمالات النجاة.. كذلك الانتظار الذي تعيشه عيشة عبد التواب مع وليدها الذي عاد إلى حضنها، وإن بقي بلا اسم أو شهادة ميلاد -حتى إشعار آخر- يوحي لنا أن الطفل (المستقبل) لن يظل بلا هوية للأبد، وأن وجوده في حضن أمه الحانية، لا بد سيعصمه من الضياع والفقد.

بحسب ما صرحت ابنة الكاتب الكبير أسامة أنور عكاشه – فإن هذه القصة هي آخر ما كتب المبدع الراحل، وكان ذلك قبل نحو ثلاثة عقود.. والأكيد أن القضية التي طرحها العمل مازالت حاضرة في حياة الشعوب العربية، ربما بشكل أكبر، بعد أن جرت تلك المخططات في مجراها، وإن استخدمت طرقا أشد ضراوة وأعمق أثرا من خلال التكنولوجيا سريعة التطور التي روجت لمفاهيم عولمية مثل المواطنة العالمية، التي تتزيا بُعدًا إنسانيا يدعو إلى التخلي عن النزعات القومية، والانسياق لدعاوى السلام المزعوم الذي لا يقيم وزنا للحقوق المغتصبة، ولا يضع على أجندته ملايين البشر ممن يعانون النبذ والتشريد وضياع الأوطان.

ورغم الأداء الرائع من معظم أبطال العمل، والإدارة الاحترافية للمخرج رؤوف عبدالعزيز الذي أبدع في التصوير أيضا، إلا أن العمل لم يوفق بالدرجة المرجوة في إيصال فكرة الكاتب على النحو الذي يرضي جمهور عكاشة، الذي كان يطمع في العودة مع الفيلم إلى حوارات أسامة ومناوراته الدرامية المتقنة.. رغم ذلك يستحق العمل الثناء لسبب آخر هو أنه يعد بمثابة تغريد خارج السرب، وجرس تنبيه (خافت) لخطر داهم يستهدف الهوية والذاكرة الوطنية التي تمثل الضمانة الأساسية لبقاء الأوطان وتماسك لُحمتها وحفظ وجودها وصيانة مقدراتها.

وأخيرا.. لا بد أن نشيد بأداء أبطال العمل، إياد نصار الذي حافظ على قدرة عالية في جذب المشاهد بأداء متوازن، وإن كان دوره شبيها بأدوار سابقة له. سهر الصايغ التي أبدعت في تقديم شخصية عيشة عبد التواب الضحية (الوطن) التي واصلت الدفاع عن الحق حتى النهاية رغم تكالب الأعداء عليها. خالد الصاوي لم يبتعد كثيرا عن أدوار سابقة، لكنه حافظ على حضور متميز في أكثر من مشهد. سماء إبراهيم وبيومي فؤاد وأحمد فؤاد سليم وحمزة العيلي، في قوالب تقليدية لم تنتقص من روعة الأداء والحضور الجيد.

وبما أن العمل أبقى أبواب الأمل مُشرعة أمام أبطاله رغم بطش وإجرام العابثين بالعقول المستخدمين كأدوات رخيصة في أيدي أعدائنا – كذلك نحن يجب أن نتمسك بأهداب الأمل، في عودة الأعمال الفنية الجادة، التي تتناول قضايا تمس الوطن والمواطن، آملين في استعادة مصر لدورها الريادي في الفن وفي كافة المجالات.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock