رؤى

في ذكرى استشهاد الشيخ المجاهد فرحان السعدي.. فلسطين تجدد عهد الوفاء

في الوقت الذي يواصل فيه أبناء الشعب الفلسطيني الدفاع عن مقدسات الأمة؛ ضاربين أروع أمثلة الفداء والتضحية، مؤكدين على نُدرة معدن هذا الشعب، الذي يواصل كتابة ملحمة صموده في ظروف بالغة الصعوبة، بمعزل عن دعاوى الإرجاف والتبرير والتخلي؛ وسط محيط عربي يجاهر قادته بعلاقات قوية وودية مع العدو – تؤكد لنا عِبر التاريخ أن شعب الجبارين؛ يكتب واقعه بذاكرة حاضرة، تستلهم سير أعظم الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، دفاعا عن الأرض المقدسة، والمبدأ القويم.

أول من أمس مرت ذكرى استشهاد رجل من أبرز رموز الثورة الفلسطينية الكبرى، إنه الشيخ المجاهد فرحان السعدي، الذي أعدمته قوات الاحتلال البريطاني صباح يوم الإثنين الثاني والعشرين من نوفمبر عام 1937، الموافق التاسع عشر من شهر رمضان المعظم لعام 1356هـ.

كنت قد تعجبت في مقال سابق من مشهد ذلك الشيخ السبعيني أسد بن الفرات وهو يقود جيش المسلمين فاتحا جزيرة صقلية، وذكرت أن هذا المشهد قلما يتكرر.. لم أكن وقتها قد قرأت عن الشيخ فرحان السعدي الذي كان قد قارب الخامسة والسبعين، ومازال قابضا على سلاحه، يقود الثوار وينفذ العمليات الفدائية ضد قوات الاحتلال البريطاني وشراذم عصابات اليهود.

لم يَفُت استشهاد عز الدين القسام في عض الرجال، فاختاروا السعدي ليكمل مسيرة الكفاح، وعلى مدى عامين كاملين تولى الرجل فيهما المسئولية، لم تفتر همته في قتال المحتلين، وإشاعة الذعر في صفوفهم بشتى الطرق.

في الخامس عشر من أبريل 1936، اندلعت الشرارة الأولى للثورة الكبرى في فلسطين عندما هاجم الشيح في مجموعة صغيرة من رجاله قافلة للصهاينة على طريق نابلس- طولكرم، كانت العملية ردا على اعتداء استهدف مواطنين عرب في يافا.. أسفر الهجوم عن مقتل صهيونيين وجرح ثالث.

واستمرت العمليات الهجومية التي كان معظمها في شكل كمائن، وكان أهمها عملية نفّذت على أراضي قرية “الفَندقُومية” بين نابلس وجنين في الثلاثين من يونيو 1936، وأدت إلى مقتل أكثر من ثلاثين جنديا بريطانيا، واستشهاد ثلاثة من الثوار. ثم كان استهدافه الجنرال البريطاني أندروز في التاسع من سبتمبر 1937، ما أسفر عن مقتله وعدد من رجاله.

بعد تلك العملية جُن جنون قادة الاحتلال، وعزموا على الإيقاع بالسعدي بأي ثمن؛ فزرعوا جواسيسهم في كل مكان، وفي إحدى ليالي رمضان كان الشيخ -الذي صار يغير مكان إقامته كثيرا- يتناول سحوره في بيت ابنة شقيقته، وكان أحد الوشاة قد شاهده وهو يدلف إلى المنزل؛ بعد أن وصله محمولا على حصان؛ فأبلغ الجاسوس وكان يُدعى السبسوب، القوات البريطانية فأرسلت على الفور وحدة كبيرة على أعلى درجات التسليح، طوقت المنزل وطالبت الشيخ بالاستسلام وإلا أحرقت القرية- قرية المزار بجبل فقوعة قضاء جنين مسقط رأس الشيخ- وكان الشيخ يعاني من جرح شديد في يده إصر رصاصة أصابته في معركة خاضها منذ أيام قرب عين جالوت.

سلم السعدي نفسه مع ثلاثة من رفاقه فجر الثاني والعشرين من نوفمبر 1937، ونقل إلى سجن عكا، وهناك حوكم محاكمة شكلية حضرها إعلام دولي ومحلي، تقرر فيها إعدامه شنقا داخل السجن.

كانت محاكمة السعدي التي أجريت في عكا عاجلة، وكانت التهمة حيازة السلاح، وهي التهمة التي كان القانون البريطاني آنذاك يقضي بتنفيذ حكم الإعدام في كل من تثبت حيازته للسلاح أو الذخيرة.

لم ينظر القاضي لأقوال محامي الدفاع.. وفي أقل من خمسة أيام صدر ونفذ حكم الإعدام في السابع والعشرين من نوفمبر 1937، الموافق التاسع عشر من رمضان 1356هـ، ودفن الشيخ بقرية النورس.

لقد قدّم الشيخ فرحان السعدي خلال مسيرة حياته الحافلة نموذجا فذا للمجاهد العتيد، منذ تفتح وعيه صبيا في قريته، يحفظ كتاب الله ويداوم على حضور مجالس العلم، وانتظامه في المدرسة الابتدائية في جنين، ثم تعلّمه الرماية وركوب الخيل على يد جده، وإغناء ثقافته عن تاريخ بلاده، وأهلها.. ثم عمله لفترة بمهنة الزراعة ليزداد ارتباطا بالأرض، قبيل التحاقه بالجيش العثماني ومشاركته في الحرب العالمية الأولى.. ثم تصدره لمعارضة سياسات والي جنين العثماني حافظ باشا، وتعرضه للعديد من المضايقات جراء ذلك.

كما عمل السعدي إماما لفترة بأحد مساجد بيسان، ثم التحق بالعمل شرطيا بلواء الشمال.. وعندما اندلعت ثورة البراق 1929، استقال السعدي من منصبه، وكوّن مجموعة من المقاومين في جنين.. ثم شكّلت مرافقته لعز الدين القسام شخصيته النضالية، فعلى يدي القسام فهم السعدي حقيقة الانتداب البريطاني، وأصبح أكثر احترافية في تنفيذ المهام الميدانية.

شارك السعدي رحلة القسام ودعواته للجهاد والثورة في أرياف فلسطين، وعمل على جمع السلاح وتدريب عناصر المقاومة في الجبال القريبة من المزار، وكان لقاؤهما الأول في جامع الاستقلال بمدينة حيفا.

اعتقل السعدي إبان ثورة البراق وأمضى ثلاث سنوات بين سجني عكا ونور شمس.

بعد الإفراج عنه، واصل السعدي مشواره الكفاحي مع الشيخ عز الدين القسام، وعمل مجاهدا تحت لوائه..

لقد كانت سيرة الشيخ النضالية العطرة ملهمة لكل أبناء الأمة، خاصة أبناء عائلة السعدي التي قدمت ثمانية وعشرين شهيدا منذ 1990، حتى الآن، فضلا عن آلاف المعتقلين في السجون العدو.. وكان آخر شهداء العائلة، الشاب محمود السعدي ابن الثامنة عشرة الذي ارتقى شهيدا برصاص الاحتلال في اقتحام جنين يوم الحادي والعشرين من نوفمبر 2022.

وليس من نافلة القول أن نؤكد أن هذا السجل البطولي ممتد حتى تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، وهو أمر نوقن بتحققه رغم كل دعاوى الخنوع والإرجاف التي نراها اليوم “… وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ”.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock