رؤى

الحرب الأوكرانية.. والنفوذ الروسي في المنطقة العربية

لم تكن المنطقة العربية، ومحيطها الشرق أوسطي، التي تُعاني العديد من الصراعات والأزمات، ولاتزال، استثناءً من التأثر بتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، التي أكملت عامها الأول، منذ اندلاعها في 24 فبراير 2022. إلا أن هذه التداعيات لم تقتصر على دول المنطقة العربية، رغم أهمية ذلك؛ بل امتدت إلى سياسات القوى المعنية بها والمنخرطة في أزماتها، وفي مقدمتها روسيا، والولايات المتحدة الأمريكية، إضافة إلى القوى الأوروبية والصين.

ورغم ظهور بعض المؤشرات على تعثر النفوذ الروسي، في مواقع النفوذ التقليدي بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؛ إلا أن هذه التعثرات، التي انتابت علاقات روسيا مع شركائها بالمنطقة، منذ اندلاع الحرب الأوكرانية، لا تعني بالضرورة تراجع موسكو عن محاولات تنمية نفوذها، في هذه المنطقة الحساسة بالنسبة لأوروبا والقوى الغربية بشكل عام؛ ولكن، على العكس، فهناك ثمة مؤشرات على سعي روسي حثيث بالعودة بقوة إلى المنطقة.

تأثيرات متعددة

أعادت الحرب الأوكرانية الاعتبار مُجددا إلى المنطقة العربية، وثقلها، بالنسبة إلى تقاطعات الاستراتيجيات الدولية حولها؛ وزادت من أهمية بعض القوى الإقليمية العربية، وغير العربية، في الرؤية الاستراتيجية للقوى الدولية، وفي مقدمتها روسيا والولايات المتحدة. بل إن العام الفائت، منذ بداية الحرب في أوكرانيا، قد كشف عن عدد من التأثيرات على الدول العربية؛ في ظل المحاولات الروسية الرامية إلى استعادة نفوذها في المنطقة.

ولعل أهم هذه التأثيرات، يمكن تناولها على الشكل التالي:

أولًا: عودة الاهتمام الأمريكي بالمنطقة العربية؛ إن العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، وما فرضته من ارتفاع في أسعار النفط لمستويات غير مسبوقة، طوال 14 عامًا مضت، دفعت الإدارة الأمريكية، إدارة جو بايدن، إلى تغيير المُقاربة الأمريكية تجاه المنطقة. وبدا أن الولايات المتحدة بدأت تضع في قمة أولوياتها مواجهة نفوذ روسيا، والصين، المتزايد في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؛ ذلك الذي انعكس في تبني الدول العربية مواقف مُحايدة، أو غير مؤيدة، لمحاولات عزل روسيا دوليا. وقد تبدى التغير في موقف الإدارة الأمريكية، بوضوح عبر ما جاء في كلمة الرئيس الأمريكي بايدن، خلال قمة جدة للأمن والتنمية، التي عُقدت في 16 يوليو الماضي، من أن “الولايات المتحدة لن تترك فراغًا في المنطقة، لتملأه روسيا والصين وإيران”.

ثانيًا: تصاعد  النشاط الدبلوماسي الروسي في المنطقة؛ بسبب تصاعد حدة الضغوط الغربية على روسيا، نتيجة الحرب في أوكرانيا، قامت روسيا بمحاولة تنمية نشاطها الدبلوماسي في المنطقة، والشرق الأوسط عمومًا. ففي أعقاب الزيارة الأولى للرئيس بايدن إلى المنطقة، خلال الفترة 13-16 يوليو الماضي، قام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بزيارة إلى إيران، في 19 من الشهر نفسه، وتضمنت انعقاد قمة ثلاثية، شملت الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، والتركي رجب طيب أردوغان.

ولم يتوقف النشاط الدبلوماسي الروسي عند زيارة بوتين، ولكن أعقب هذه الأخيرة زيارة سيرغي لافروف إلى المنطقة، خلال الفترة 24-28 من الشهر نفسه، شملت مصر وبعض الدول الأفريقية، إثيوبيا وأوغندا والكونغو الديمقراطية؛ بل، إن لافروف كان قد ألقى خطابا في جامعة الدول العربية، في 24 يوليو الماضي، أثنى فيه على “المواقف المتوازنة التي اتخذتها الدول العربية، تجاه الأزمة في أوكرانيا”.

وكما يبدو، فهذا التصاعد في النشاط الدبلوماسي، إنما تستهدف منه روسيا توسيع شراكاتها السياسية والاقتصادية مع الدول الحليفة لها، والمؤيدة لموقفها في أوكرانيا؛ وكذلك، دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي تتبنى مواقف مُحايدة، أو رافضة للمُقاربة الأمريكية تجاهها في أعقاب الحرب الأوكرانية.

ثالثًا: التحرك الروسي على محور “مثلث الأزمات” العربية؛ يُمكن اعتبار عام 2015، من أهم محطات السياسة الروسية تجاه المنطقة، بدخولها عسكريًا إلى سوريا، وتدشين قواعد عسكرية لها في حميميم وطرطوس على ساحل البحر المتوسط، وهي أقرب نقطة ممكنة من الجناح الجنوبي لحلف شمال الأطلسي “ناتو”. ومع الحرب الأوكرانية، وتداعياتها، سوف تعمل روسيا  على ضمان أن تُصبح سوريا من أهم نقاط الارتكاز الروسي في المنطقة، إلى أجل غير مُسمى.

ويتوازى مع هذا السعي، المحاولة الروسية في توفير قاعدة لوجستية في بورتسودان، تمت الإشارة إليها في أثناء زيارة لافروف إلى الخرطوم، الأربعاء 8 فبراير؛ وهي القاعدة التي تُعد مرحلة أولية أمام مشروع طويل الأمد تطمح روسيا من خلاله إلى تأمين الارتكاز البحري لموسكو في السودان، مما يساهم في إمكانية التأثير على عمليات النقل للتجارة الدولية في البحر الأحمر؛ وهو ما يعني فرض روسيا لنفسها كـ”لاعب متحكِّم” في معادلات الطاقة الجديدة، التي يمر جزء كبير منها عبر مضيق باب المندب.

ثم، يأتي التواجد الروسي في ليبيا، ليؤشر على التحرك الروسي في محيط “مثلث الأزمات العربية”؛ حيث يمكن قراءة إعلان الكرملين بتعيين سفير روسي جديد في طرابلس، في نهايات العام الماضي، 29 ديسمبر 2022، كونه مؤشرا على محاولة روسية لاستباق متغيرات محتملة في هذا البلد المغاربي، تؤدي إلى تسوية أزمته السياسية والأمنية منذ أكثر من عقد من الزمان.

رابعًا: تأثير “أوبك بلس” على ملف الطاقة العالمي؛ بينما تُعاني الدول الأوروبية من تراجع إمدادات الطاقة الروسية، في أعقاب الحرب في أوكرانيا، بدأ بعضها في البحث عن مزيد من الإمدادات من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وبالفعل، وقَّعت دول عديدة اتفاقيات مع الدول العربية المُنتجة للغاز، لتعزيز التعاون في مجال الطاقة؛ منها كمثال إيطاليا، التي وقعت اتفاقية مع الجزائر، أصبحت بموجبها إيطاليا المورد الرئيس للغاز الجزائري إلى أوروبا.

على الجانب الآخر، سيصبح اتفاق “أوبك بلس” من المسلمات بالنسبة إلى العلاقات الخليجية الروسية، كونه أثبت فاعلية قوية خلال الحرب الأوكرانية؛ بل، إن روسيا ذات الإنتاج النفطي والغازي الضخم، بالتعاون مع الإمارات والسعودية، وإذا قررت مصر هي الأخرى، كإحدى أهم دول مجموعة غاز شرق المتوسط، أن تقف موقفًا قريبًا من روسيا؛ فإن العالم يكون قد أصبح رهن قرارات هذه المجموعة.

إذ، إن تعاظم الدور الذي يُشكله تحالف “أوبك بلس”، الذي تُعتبر روسيا أحد أهم أعضائه،  فضلا عن الدول الرئيسة المُنتجة للنفط ضمن “أوبك”، خصوصًا الدول العربية الخليجية؛ تعاظم الدور هذا، قد يوجه مسار العديد من الأزمات حول العالم، ويُشكل أداة ضغط مُفيدة لصالح هذا “التحالف”، الذي يتشكل من أكبر الدول المنتجة للنفط.

انعكاسات محتملة

في هذا السياق، يمكن القول بأن مستقبل النفوذ الروسي، في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بتأثير من تداعيات الحرب الأوكرانية؛ وإن كان يحكمه عدد من “المحددات الضاغطة”، إلا أنه يؤشر إلى مجموعة من “الانعكاسات المحتملة”؛ يأتي في مقدمتها: المحاولة الروسية في ضمان استدامة النفوذين العسكري والسياسي الروسيين على البحر المتوسط، ومحاولة التمدد عبر البحر الأحمر إلى بورتسودان.

أضف إلى ذلك، أن السعي الروسي لإيجاد “تعاون استراتيجي” مع دول الشرق الأوسط والخليج العربي، سيظل من أهم الأدوات التي سيتم تعظيم الاستثمار فيها مستقبلا، بعد أن أثبتت الحرب الأوكرانية أهمية الغاز والنفط بوصفها أدوات ردع، وتوجيه لمسار الأزمة، تحت وقع عدم استقلال الدول المستوردة للطاقة. هذا، فضلا عما تبدى بوضوح لدى روسيا من أهمية العودة إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؛ حيث أصبحت فاعلا في سوريا وليبيا، وإلى حد ما في السودان؛ وذات علاقات جيدة مع الإمارات ومصر والجزائر، ومساحات لا بأس بها مع تركيا، وتقارب استراتيجي مع إيران. وبالتالي، ستعمل روسيا على تطوير وجودها في المنطقة، كإحدى أهم المناطق الاستراتيجية، ذات الأثر الجيوسياسي المهم في إدارة العديد  من الأزمات الدولية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

Related Articles

Back to top button

Adblock Detected

Please consider supporting us by disabling your ad blocker