رؤى

لماذا تتدخل إريتريا.. في ملف شرق السودان (؟)

نشطت خلال الأسابيع الماضية وبشكل لافت، العلاقات بين الخرطوم وأسمرة، بعد أن كانت الأخيرة الأقرب إلى أديس أبابا، التي تمر علاقاتها مع السودان بحالة من التوتر الحاد بسبب خلافات سد النهضة، فضلًا عن الخلاف الحدودي حول أراضي “الفشقة”. وتحاول إريتريا، في سعيها لتعزيز علاقاتها مع السودان، أن يكون لها يد في حل الأزمة السياسية التي يشهدها الأخير، منذ أحداث 25 أكتوبر، وتحكم المُكوِن العسكري في المشهد السياسي في السودان.

إذ سبق أن طرحت أسمرة، في أبريل الماضي، مبادرة لمعالجة الأزمة وتقريب وجهات النظر بين جميع أطياف الصراع؛ وهي المبادرة التي كان قد تقدم بها الرئيس الإريتري، آسياس أفورقي، لرئيس مجلس السيادة الانتقالي، عبد الفتاح البرهان، من أجل التوسط لحل الأزمة.

دوافع متعددة

لم تكتف أسمرة بهذه المبادرة، ولكن حاولت الدخول على ملف “شرق السودان”، الذي تفاقمت الأزمة فيه عقب “اتفاق السلام”، الموقع في 3 أكتوبر 2020، وخروج تكتل قبلي تحت مسمى “المجلس الأعلى لنظارات البجا”، يطالب بإلغاء مسار الشرق، والاتفاق على ترتيبات جديدة في الإقليم.

وعبر السفير الإريتري في السودان، عيسى أحمد عيسى، قامت أسمرة بتوجيه الدعوة إلى عشرات من القيادات والنظارات والعموديات كممثلين عن غالبية المكونات في شرق السودان، وممثلين آخرين عن الحكومة السودانية، للمشاركة في مؤتمر تحضيري يدشن عقب لقاء يُعقد مع الرئيس أفورقي، للتعرف على الرؤى المطروحة شعبيًا وحكوميًا والبحث عن حل لها. إلا أن السلطات الأمنية السودانية أوقفت، وفد زعماء القبائل المتجه إلى العاصمة الإريترية، عبر أحد المعابر البرية المُغلق منذ سنوات.

فما أسباب المحاولات الإريترية في الدخول على خط الأزمة السياسية في السودان عموماً؛ وملف شرق السودان على وجه الخصوص؟

دوافع متعددة تستند إليها إريتريا في محاولتها هذه.. أهمها ما يلي:

محاولة تجاوز العقوبات والخروج من العزلة الدولية: إذ تواجه أسمرة حاليًا تحديات على طريق استعادة اندماجها في العلاقات الدولية والإقليمية. ومن خلال المساهمة في إحلال السلام بإقليم شرق السودان، الذي شهد عدد من التوترات في الفترة الماضية، يمكن لإريتريا تقديم صورة ناصعة باعتبارها تساهم في توفير الأمن والاستقرار في المنطقة، بعد أن تعرّض النظام الحاكم فيها إلى إدانات واضحة، عقب المشاركة مع الحكومة الإثيوبية في حرب تيغراي؛ ما تسبب في العقوبات التي فرضتها واشنطن على إريتريا، في نوفمبر الماضي، فضلًا عن عقوبات سابقة لمجلس الأمن عليها لاتهامها بدعم “حركة الشباب” الصومالية.

ومن جانب آخر، هناك محاولة إريترية لتجاوز التعاون المباشر مع الخرطوم، إلى التعاون مع الاتحاد الأوروبي، بخصوص استضافة الميليشيات التابعة للحركات المسلحة من إقليم دارفور، التي كانت تقاتل في ليبيا. وفي ظل بحث الاتحاد الأوروبي في شأن إخراج هذه الميليشيات من المشهد الليبي، عبر أفورقي عن استعداد بلاده لتلك الاستضافة.

اكتساب ساحة للنفوذ في القرن الأفريقي: فمن خلال محاولة التدخل في الشئون الداخلية للسودان، كما حدث من قبل في الصومال، في العقد الأول من القرن الحالي، تستهدف إريتريا تقوية مكانتها ولعب دور إيجابي يدعم دورها الإقليمي، بشكل يضع أسمرة في مقدمة دول القرن الأفريقي الفاعلة، بعد زعزعة الدور الإثيوبي نتيجة الحرب في إقليم تيغراي.

وبدلًا من العزلة السابقة، وعبر الدخول على خط التوتر في شرق السودان، يبدو بوضوح الهدف الإريتري في تفعيل دورها داخل المنظمات الإقليمية، التي فَعَّلت إريتريا عضويتها فيها، خلال السنوات القليلة الماضية، بعد توصلها إلى اتفاق مع إثيوبيا عام 2018، في شأن العلاقات بين البلدين، بعد قطيعة استمرت نحو 17 عامًا، وأهم هذه المنظمات الهيئة الحكومية للتنمية “إيغاد” والاتحاد الأفريقي.

رسم خريطة تحالفات إقليمية جديدة: حيث يلاحظ من التحركات السياسية لإريتريا، أنها تجاوزت الموقف الحذر من إجراءات المكون العسكري في السودان، في 25 أكتوبر، وأنها من خلال عروضها في القيام بدور “الوساطة”، سواء في ما يخص الداخل السوداني، أو في ما بين السودان وإثيوبيا، إنما تحاول لعب دور إقليمي مميز، ترسم من خلاله ملامح خارطة تحالفات جديدة، في منطقة القرن الأفريقي.

فإضافة إلى المبادرة التي تقدم بها الرئيس الإريتري، في أبريل، إلى رئيس المجلس الانتقالي، عبد الفتاح البرهان، للتوسط في حلحلة الأزمة السياسية في السودان؛ وفضلًا عن محاولة إريتريا الدخول على خط التوتر في إقليم شرق السودان.. فقد عرض أفورقي وساطة بلاده بين الخرطوم وأديس أبابا، في قضية الحدود بين البلدين؛ وذلك عندما  أرسل وزير خارجيته، عثمان صالح، إلى الخرطوم، في يوليو من العام الماضي، للتباحث في هذا الأمر. إلا أن الخرطوم رفضت الوساطة الإريترية، استنادًا إلى مُبرر “عدم حيادية أسمرة”.

واللافت – رغم ذلك – أن تنامي العلاقات بين إريتريا والسودان، خصوصًا بعد سقوط نظام البشير، يعتمد على رؤية أسمرة في أهمية التقارب مع المجلس العسكري أكثر من المدنيين؛ من حيث إن الاحتمال الأقرب ـ بالنسبة إليها ـ هو تولي العسكريين للسلطة في السودان، أو على الأقل التحكم في مساراتها؛ وهو ما يختلف عن نظام البشير، الذي كانت خلفيته قائمة على الإسلام السياسي، وكان ـ بحسب الرؤية الإريترية ـ يدعم التيار الإسلامي المعارض لنظام أفورقي في إريتريا.

استيعاب بعض الجماعات الإثنية في السودان: فعدم جدية السلطات الحاكمة في إيجاد حل للتوتر من الداخل (في الشرق) وفشل اللجنة المكلفة بالملف برئاسة نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي، محمد حمدان دقلو (حميدتي) في إدارة الأزمة، أتاح الفرصة لإريتريا في الدخول على خط ملف الشرق، خاصة أنها تعتمد في ذلك على القرب الجغرافي، والتداخلات القبلية والإثنية بين إريتريا وشرق السودان.

ومن الواضح، أن أسمرة تعدّ لاعبًا رئيسيًا في تطورات المشهد الاجتماعي والاقتصادي، والسياسي أيضًا، في إقليم الشرق.. بفعل الحدود البرية المشتركة بينهما، وعلاقاتها مع الكثير من المكونات الأهلية الفاعلة في الإقليم.

وفضلًا عن أن نظام أسمرة يعول على إدراك السلطة الحاكمة في السودان، أنها تمتلك مفاتيح تهدئة الأوضاع؛ فإن التدخل في ملف شرق السودان، لا يمثل فقط أهمية بالنسبة لإريتريا باعتباره واجهة شمالية غربية لأمنها القومي.. ولكن أيضًا يتيح لها تعزيز مكاسبها بعد الاتفاق على فتح الحدود؛ وهو ما من شأنه انعاش الاقتصاد بين البلدين، وتنشيط الحركة التجارية، خصوصًا مع اعتماد اقتصاد إريتريا على السلع السودانية، الصناعية والزراعية، المتداولة بين القبائل والإثنيات المتداخلة على الحدود بين البلدين.

قضايا شائكة

في هذا السياق، يبدو أن المبادرة الإريترية ربما تستغرق وقتًا، إلى أن تتبلور في مقترح لحل الأزمة السياسية في السودان؛ وربما تواجه محاولات أسمرة بعضًا من الصعوبات بخصوص تدخلها في ملف شرق السودان.. لكن رغم ذلك فإن هناك مجموعة من القضايا “الشائكة” التي تدفع إلى التقارب الإريتري مع السودان، في إطار محاولة تفعيل “التفاهمات” بين الطرفين حولها.

فهناك قضايا تخص الداخل الإريتري متعلقة بالاقتصاد والأمن، وتتصل بطبيعة المشكلات القائمة في منطقة “الفشقة” الحدودية المتنازع عليها بين السودان وإثيوبيا؛ فضلًا عن مشكلة إقليم تيغراي، وما تمثله جبهة تحرير تيغراي من تهديد لنظام أسمرة. أضف إلى ذلك، مشكلة التداخل القبلي والإثني، بين إريتريا وإقليم شرق السودان، وما يمثله التوتر في الإقليم من تداعيات على الداخل الإريتري.

هذه القضايا مجتمعة، وفي مقدمتها سوء العلاقات بين أسمرة وأديس أبابا، أدت إلى تحرك إريتريا تجاه السودان وفق مسارين: الأول تفاهمات بشأن العلاقات بين البلدين؛ والآخر نقاشات بخصوص إثيوبيا وعلاقتها بالسودان. وهذه القضايا في الوقت الذي تجعل فيه إريتريا تهتم بالتقارب مع السلطة الحاكمة في السودان إلا أنها – في الوقت نفسه- تدفعها إلى التدخل في تفاعلات شرق السودان، كمحاولة من جانبها في الخروج من عزلتها، خلال سنوات مضت، وتفعيل دورها كـ”فاعل” في منطقة القرن الأفريقي.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock