بعد بسط السيطرة المصرية على شبه الجزيرة العربية، قرر محمد علي فتح السودان، وهو القرار الذي تأجّل بسبب الحرب على الوهابيين والتي استمرت نحوا من سبع سنوات.. وكان محمد علي يهدف من فتح السودان إلى القضاء على بقايا المماليك المتحصنين جنوبي النوبة في دنقلة، وتأمين منابع النيل بعد أن تواترت أنباء عن اعتزام إنجلترا السيطرة عليها؛ مناوءة لمحمد علي بعد هزيمتهم المُذلّة في رشيد.
أراد محمد علي أيضا التخلص من بقايا الجند الأرناؤوط، والباشقوزق، بعد عودتهم من الحجاز؛ لما عُرِفَ عنهم من العصيان والتمرد، كما رأى تجنيد أعدادٍ من السودانيين المعروفين بالطاعة والشجاعة والصبر على تحمل أصعب ظروف الحرب.
أراد محمد علي أيضا اكتشاف مناجم الذهب والماس، وتأمين طرق التجارة وتوسيع نطاق المعاملات التجارية بين البلدين.
تكوّنت الحملة التي جرّدها الباشا على السودان من جيشين قوامهما نحوا من عشرة آلاف مقاتل، على رأس الأول إسماعيل باشا نجل محمد علي، وعلى رأس الثاني الذي اتجه لفتح كردفان، صهره محمد بك الدفتردار.. تحركت الحملة برا ونهرا، إذ حُمل المشاة في المراكب، بينما سار الفرسان ورجال المدفعية برا؛ حتى بلغت الحملة دنقلة، فدخلها الجند دون مقاومة تذكر، بعد استسلام المماليك، وفرار عدد كبير منهم إلى شندي.
وفي خريف 1820، خاض إسماعيل باشا بنحوٍ من ثمانمئة فارس فقط بعد تأخّر المراكب التي حملت الجنود في اجتياز منطقة الشلالات – معركة بطولية في كورتي عاصمة بلاد الشايقية، وانتصر المصريون وانضم لهم جنود الشايقية بعد أن بايعوا بالولاء للجيش المصري، ومضت القوات نحو بربر، ففتحوها أواخر شتاء 1821، أعقب ذلك فتح شندي وأم درمان دون كبير مقاومة، ثم كان فتح سنار واحتلال ودمدني.
وكان دخول عاصمة سنار في 13 يونيه 1821، وبذلك دانت السيطرة لجيش إسماعيل على كافة المناطق الواقعة ما بين وادي حلفا وسنار.. بينما استطاع جيش الدفتردار فتح كردفان.. التي كانت تابعة لسلطان دارفور، الذي أرسل جيشا بقيادة نائبه محمد الفضل، لملاقاة المصريين عند بارة، حيث وقعت معركة دامية انتهت بانتصار المصريين واحتلال الأُبيّض، وكان النصر بسبب المدفعية التي حسمت الأمر بعد ما أبداه جيش كردفان من شجاعة كبيرة.
كان العدو الحقيقي للمصريين في حملتهم على السودان – تلك الأمراض الفتاكة التي قتلت منهم الآلاف بحسب شهادة المسيو كايوالدي الذي صحب الحملة في سنار، حيث فتكت أمراض المناطق الحارة بنحوٍ من ألف وخمسمئة جندي في غضون شهر، بينما وقع أسير المرض نحو ألفين.. حتى وصل الأمر بجيش إسماعيل أن وصل عدد القادرين فيه على القتال وحمل السلاح نحوا من خمسمئة جندي فقط، ما أغرى بهم الأهالي.. ولم يكن مع الحملة ما يكفي من التجهيزات الطبية ولا الأطباء الأكفاء، كما عانت الحملة كثيرا من نفاد مهام الجند من ملابس ونحوها، ما جعل إسماعيل باشا يراسل والده شاكيا له سوء الحال، ليبادر محمد علي بإرسال إبراهيم باشا بطل الحجاز كما كان يطلق عليه، ومعه عدد من الأطباء، وكميات من المؤونة والملابس؛ فانتعش الجيش بقدومه، ودبت في الجنود روح الأمل والشجاعة بحسب تعبير الرافعي.
كما كان لدفع الرواتب المتأخرة للجنود أفضل الأثر على معنوياتهم، قبيل وصول مدد من المقاتلين.. ويضيف الرافعي:
“وأخذ إبراهيم باشا يدير مع أخيه إسماعيل خطة فتح ما بقي من السودان، فاتفقا على اقتسام الزحف كل منهما من ناحية وتوزيع الجيش إلى فرقتين، فرقة بقيادة إسماعيل باشا لفتح البلاد الواقعة على النيل الأزرق لغاية إقليم فازوغلي والأخرى بقيادة إبراهيم باشا ليخترق جزيرة سنار إلى بلاد الدنكا على النيل الأبيض، ويمد فتوحات مصر إلى أعالي النيل.
وبعد أن تمت معدات الزحف تركا حامية من الجنود في سنار، واتخذ كل من الأخوين سبيله في الجهة التي اعتزم فتحها، ولكن إبراهيم باشا مرض بالدوسنتاريا أثناء الفتح، ولم يتجاوز في حملته جبل (القربين) في وسط الجزيرة، ثم عاد إلى سنار ومنها إلى مصر.
ووصل إسماعيل باشا في زحفه إلى بلاد (قازوغلي) فدانت له (يناير سنة 1822) وقدم له ملكها (الملك حسن) ولاءه وخضوعه.
وقد تكبّد الجيش متاعب هائلة في تلك الحملات البعيدة، ونالت منه الجهود والأوصاب، وبعث إسماعيل إلى أبيه يطلب الإذن له بالعودة إلى مصر، ولكنه أرسل يلومه على هذا الطلب وكلفه البقاء في السودان إلى أن يتم مهمته، وقد أذعن وبقي زمنا يوطد دعائم السيادة المصرية في تلك الأصقاع، ثم أشفق محمد علي على صحة ابنه؛ فأرسل يأذن له بالرجوع إلى مصر؛ ولكن هذا الإذن لم ينجه من الردى”.
ينتهي إلى هنا كلام المؤرخ عبد الرحمن الرافعي الذي أكّد فيه على محدودية دور إبراهيم باشا في فتح السودان، من الناحية العملية.. لكن الإنصاف يقتضي القول أن وصول إبراهيم باشا (بطل الحجاز) كان له مفعول السحر في استعادة الحملة لقوتها وهيبتها في عموم السودان، ما ردّ كثيرا ممن حدثتهم أنفسهم بالثورة والتمرد والعصيان على الجيش المصري، خائبين بعد أن أعملت الحرب النفسية فيهم آلتها بضراوة.. ولولا هذا القدوم لما كُتب لهذا الفتح العظيم أن يكتمل على هذا النحو في فترة قياسية لم تتجاوز العامين.