رؤى

في ذكرى استشهاد عبد المنعم رياض.. عن الجنرال والأستاذ (1-2)

الجنرال هو الفريق عبدالمنعم رياض رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية في أعقاب حرب يونيه ٦٧، والأستاذ هو محمد حسنين هيكل، رئيس تحرير جريدة الأهرام في تلك الفترة الحاسمة من تاريخ مصر.

ذلك هو التوصيف العام والمُجرَّد لكلا الرجلين، لكنهما في تاريخ  الوطن والعرب، بل وفي تاريخ العالم خلال القرن الفائت، هما من علامات التفوق والامتياز، فالأول هو جنرال الحرب الذهبي بلا جدال، ووفق وصف هيئة التدريس لأكاديمية “فرونزي” العسكرية السوفييتية أعلى وأهم مدارس الحرب في العالم، والتي درس فيها الفريق رياض أكثر من دورة، والمُدهش في مسيرة هذا الرجل الكبير، أنه نال نفس التقدير من أكاديميات الحرب في عدد من دول الغرب، وذلك في بداية حياته العسكرية.

أما الأستاذ فهو واحد من أهم صحفيي القرن العشرين، وإن لم يكن أهمهم عَلى الإطلاق، فقد جعل الجريدة التي تولى رئاستها في عام ١٩٥٧، وهي تُشارف الذبول والاندثار والموت،  كواحدة من أهم عشر صحف في العالم، فقد كانت – في زمانه- نافذة مصر عَلى الدنيا، وكانت في الوقت نفسه خير تعبير عن مصر الناهضة والمُتطلعة بقوة الى العصر الحديث بكل تجلياته العلمية والثقافية والإنسانية.

من حُسن حظ الوطن وتاريخه، أن التقى الكبيران ذات يوم وفي حاضرة الإمبراطورية السوفييتية موسكو، وتعارفا وتصادقا، وصنعا معا واحدة من أهم علاقات الصداقة والود والحب والاحترام.

تلك الصداقة التي جمعت ما بين الجنرال والأستاذ رحمهما الله.

استشهد الفريق رياض صباح يوم التاسع من شهر مارس لعام ١٩٦٩، وهو اليوم الثاني لحرب الاستنزاف المجيدة والذي وضع خطوطها العامة، بل والتفصيلية مع الفريق أول محمد فوزي القائد العام للقوات المسلحة المصرية، وتحت إشراف مُباشر من الرئيس جمال عبدالناصر  رحمه الله.

في يوم الجمعة الأولى بِعد الاستشهاد العظيم، وجنازته التاريخية في قلب القاهرة، كتب الأستاذ هذه الرحلة البطولية للجنرال في مقاله الأسبوعي “بصراحة” يتحدث عن الصديق والإنسان عبدالمنعم رياض، الذي صار يوم استشهاده عيدا لكل شهداء الوطن، التاسع من مارس من كل عام.

عبد المنعم رياض في مرحلة الشباب

في تحية عبد المنعم

محمد حسنين هيكل

رياض.. الجنود القُدامى لا يموتون..

أُغالب مشاعري كلها الآن، لأكتب في آخر ما كنت أتصور أن أكتب فيه، وآخر ماكنت أريد أن أكتب فيه.

ولقد كان السؤال الذى دهم حواسي كلها حين سمعت نبأ استشهاد الفريق عبد المنعم رياض، في موقع من أكثر المواقع تقدما على جبهة القتال، وفى وقت ضج فيه الأفق بهدير المدافع – هو:

– لماذا؟ لماذا ذهب؟ لماذا كان في هذا الوقت بالذات هناك، وهو يعرف أكثر من غيره طبيعة ضرب المدفعية، خصوصا من عدو لا يدقق في التوجيه، ولا يهمه أن يدقق، لأنه على جبهة القناة، يعرف أن كل طلقة منه يمكن أن تُصيب، بيتا، مدرسةً، مسجدا، مصنعا، موقعا، أي شيء يستوى الأمر لديه، بينما مدافعنا نحن تحتاج لكى تُصيب إلى تدقيق في التوجيه ضد عدو مُستحكم في خلاء الرمال الواسعة على الضفة الشرقية حيث حفر لمواقعه، وأسدل عليها مختلف فنون التمويه والإخفاء!

لماذا ذهب، اليوم – الأحد – والتقديرات كلها بعد معارك يوم السبت تشير إلى أن العدو سوف يحاول في الغد أن يثأر لخسائره المؤكدة، وأرجح الاحتمالات أن تتجدد معارك المدافع. وظللت أردد نفس السؤال، مُختنقاً باللوعة، مُشتعلاً باللهب وأنا أسمع التفاصيل الكاملة للمشهد الأخير في حياته، ولم يكن أساي لأنى أعرف عبد المنعم رياض صديقا قريبا وغاليا، ولكن أيضا لأنى أعرف قيمة الرجل وقيمة عطائه للوطن في وقت يحتاج فيه هذا الوطن إلى نفس هذا النوع من العطاء الذى يستطيع عبد المنعم رياض أن يعطيه.

كان قد عاد بالطائرة قبل ساعات من بغداد، حيث حضر اجتماعات لرؤساء أركان حرب جيوش الجبهة الشرقية، وتابع معارك المدافع يوم السبت من مكتبه في القيادة العامة. وصباح الأحد ركب طائرة هليكوبتر في طريقه إلى أحد المطارات الأمامية للجبهة، ثم ركب سيارة عسكرية معه فيها مرافق واحد غير الجندي الذى يقود سيارة رئيس هيئة أركان الحرب.

وانطلق يطوف بالمواقع في الخطوط المتقدمة، يتحدث إلى الضباط والجنود، يسألهم ويسمع منهم، ويرى ويراقب ويسجل في ذاكرته الواعية، وفى أحد المواقع التقى بضابط شاب، وكانت حماسته للشباب مفتوحة القلب ومتدفقة، وقال له الضابط الشاب، ولم يكن هدير المدافع قد اشتد بعد: سيادة الفريق.. هل تجيء لترى بقية جنودي في حفر موقعنا؟

وقال عبد المنعم رياض، بنبل الفارس الذى كانه طول حياته، وبالإنجليزية التي كانت تعبيرات منها تشع كثيرا سلسة وطيعة على لسانه: Yes. By all means – أي: نعم، وبكل وسيلة.

وتوجه مع الضابط الشاب إلى أكثر المواقع تقدما، الموقع المعروف برقم 6 بالإسماعيلية. وفجأة بدأ الضرب يقترب، وبدأت النيران تغطى المنطقة كلها، وكان لابد أن يهبط الجميع إلى حفر الجنود في الموقع، وكانت الحفرة التي نزل إليها عبد المنعم رياض تتسع بالكاد لشخصين أو ثلاثة.

وانفجرت قنبلة للعدو على حافة الموقع، وأحدث انفجارها تفريغ هواء مفاجئا وعنيفا في الحفرة التي كان فيها عبد المنعم رياض، وكان هو الأقرب إلى البؤرة التي بلغ فيها تفريغ الهواء مداه، وحدث له شبه انفجار في جهاز التنفس، وحين انجلى الدخان والغبار كان عبد المنعم رياض مازال حيث هو، وكما كان، إلا تقلصات ألم صامت شدت تقاطيع وجهه المُعبر عن الرجولة، ثم خيط رفيع من الدم ينساب هادئاً من بين شفتيه، وتنزل قطراته واحدة بعد واحدة على صدر بذلة الميدان التي كان يرتديها بغير علامات رتب، كما كان يفعل دائما حين يكون في الجبهة ووسط الجنود. ولم يكن لدى أطباء المستشفى في الإسماعيلية وقت طويل للمحاولة، برغم أمل ساورهم في البداية، حين وجدوا جسده كله سليما بلا جرح أو خدش، لكنها خمس دقائق لا أكثر ثم انطفأت الشعلة، وتلاشت تقلصات الألم التي كانت تشد تقاطيع الوجه المعبر عن الرجولة، لتحل محلها مسحة هدوء وسلام، ورضى بالقدر واستعداد للرحلة الأبدية إلى رحاب الله.

وبرغم كل هذه التفاصيل، فلم أكن قادرا على تصديق ما أسمع، وكان نفس السؤال المختنق باللوعة، والمشتعل باللهب مازال يتكرر صادرا من أعماق أعماق الوجدان:

– لماذا؟ لماذا ذهب؟ لماذا وهو أول من يعرف طبيعة ضرب المدفعية، ثم هو أول من يعرف أهمية سلامة رئيس هيئة أركان حرب الجيش… في أي جيش في أي وطن؟

وكانت الدموع راحة وسكينة، بدأ كل شيء بعدها أكثر جلاءً وصفاءً، كأن الشمس تعود بعد أن انقشع الضباب المتراكم للعاصفة، وبعد أن انقطع نزول المطر.

كانت إجابة السؤال في أذني بصوت عبد المنعم رياض، كما سمعته يتحدث إلى بعد موقف من المواقف التي كاد الخطر يطبق فيها عليه، وكان ذلك قبل أكثر من عشرين شهرا، وقبل أن تبدأ معارك يونيو سنة 1967 بأيام قليلة. كان ذلك في الأسبوع الأخير من شهر مايو سنة 1967، وكان التوتر شديدا على خط الحدود المصرية وعلى خطوط الهدنة، بينما قواتنا تحتشد في سيناء، وقوات العدو تتدفق إلى النقب الجنوبي، والصدام المسلح محتمل في أي ساعة.

وكان عبد المنعم رياض رئيسا لهيئة أركان حرب القيادة العربية الموحدة، التي أبعدته إليها عناصر كانت لها السلطة المطلقة في مقدرات القوات المسلحة المصرية في ذلك الوقت، لكنه لما أحس باحتمال نشوب القتال على الجبهة المصرية، طلب أن يُعفى من انتدابه في القيادة الموحدة وأن يعود إلى جيشه ليخدم فيه مادامت المعركة تلوح في الأفق وأجيب إلى طلبه.

وفجأة ظهر يوم 27 مايو سنة 1967، سمعت نبأ بدا وكأنه كارثة، حاول من نقله إلىَّ أن يعطيه لي على جرعات.

قال أولاً: – هناك دوريات مسلحة دخلت للاستكشاف في الأرض الإسرائيلية”.

قلت: معقول ومفهوم.

قال: يظهر أن عبد المنعم رياض دخل بنفسه مع إحدى هذه الدوريات.

قلت: هذه مخاطرة لا لزوم لها.

ولكن الذروة جاءت حين قال لي محدثي في ذلك الوقت:

– ولقد أعلن العدو حالاً أن إحدى الدوريات التي دخلت قد وقعت في كمين العدو، ومن المحتمل كثيرا أن تكون تلك هي دورية عبد المنعم رياض، لأنها شوهدت وفق آخر تقرير في نفس هذه المنطقة.

وقلت، وأكاد أفقد أعصابي: هذا غير معقول ولا مفهوم!

ومضت ساعات والقلق فيها يعصر قلبي وقلوب غيرى ممن كانوا يعرفون بالاحتمال الرهيب الذى يمكن أن يتحقق في أي ثانية إذا ما أعلن العدو عن أسماء الضباط من أفراد الدورية التي وقعت في الكمين الذى نصبه. وأذكر يومها، أنني كنت على موعد مع محمود رياض وزير الخارجية، وكنت أريد أن أناقش معه بعض تطورات الموقف السياسي، لكننا قضينا معا أكثر من ساعتين في ذلك اليوم، وليس بيننا حديث غير حديث القلق على عبد المنعم رياض: هل كان ضمن الدورية التي وقعت في أسر العدو.. أو أنه لم يكن، ومازال يجوب وسط مناطق تحشدات العدو بجسارته المذهلة، لا يعرف ماذا فعل بأصدقاء له في القاهرة عرفوا وعانوا.

وفى المساء أعلن العدو أسماء ضباط وجنود الدورية التي وقعت في أسره، ولم تكن دورية عبد المنعم رياض، وخفف القلق قبضته على القلوب، وإن لم يرفعها تماما في انتظار أن يعود عبد المنعم رياض أو تصل أخبار مطمئنة عنه.

وفى اليوم التالي سمعت صوت عبد المنعم رياض بنفسه يقول لي بالتليفون من القاهرة وضحكته المرحة تسبق الكلمات: – بلغني أنك كنت عصبيا أمس!

قلت له: – لم أكن عصبيا فقط، ولكنى كدت أجن.

وراح يضحك، وقلت له: – انتظرني أقول لك وجهة نظري، لم يكن تفكيري شخصيا في كل ما شعرت به، لكنني لم أكن أتصور أن ينجح العدو – قبل أن يبدأ أي قتال – في أسر رئيس هيئة أركان حرب القيادة العربية الموحدة؟

هل تتصور أثر ذلك على الروح المعنوية العربية عموما، هل تتصور ما كان يمكن أن يحصل العدو عليه من معلومات منك، وأنت تعرف أن هناك حدا لصمود أي بشر أمام وسائل التعذيب الحديثة؟

وقال: – لم يكن ذلك كله غائباً عن بالى عندما خرجت مع دورية الاستكشاف، لكنى أحسست بضرورة الخروج هذه الأيام الثلاثة مع الدورية. ولقد كان مسدسي في يدى طول الوقت، ولم تغمض عيني ثانية واحدة، ولو قد أحسست باحتمال أن نلتقى بقوات للعدو، فلقد كان حتما أن نقاتل حتى الطلقة ما قبل الأخيرة، لأنى كنت سأحتفظ بالطلقة الأخيرة ذاتها لنفسي، أفرغها في رأسي قبل أن يحاول العدو أن يأخذ منى نتفة معلومات واحدة.

واستطرد عبد المنعم رياض في ذلك اليوم يقول: –

كان يجب أن أخرج مع هذه الدورية بنفسي لأسباب. أريد أن أرى الأرض التي ستجرى من فوقها المعركة، ومع أنى أعرفها من قبل ومشيت عليها بقدمي بقعة بقعة، فلقد كنت أريد أن أستذكر بالنظر ما أعرف.. لا شيء يعوض أن ترى بنفسك الأرض التي ستعمل عليها. والتي على ترابها سوف تتحدد الحياة أو الموت.

ومن ناحية أخرى، فإنه في بداية احتمال قتال بيننا وبين العدو، فلقد كان يجب أن نبعث ببعض الدوريات للاستكشاف، وفضلاً عن أي معلومات قد يعودون بها، فإن دخولهم يكسر رهبة اقتحام أرض للعدو في بداية مواجهة خطيرة معه. ومن ناحية ثالثة، فلم أكن أتصور أن نقول للضباط والجنود: اذهبوا أنتم إلى الدوريات وعودوا إلينا هنا وقصوا علينا ما رأيتم، تفرق المسألة كثيرا إذا أحسوا أن القواد معهم في المخاطرة، إلى جانب أنهم رأوا مثلهم ويستطيعون المراجعة عليهم.

ثم استطرد عبد المنعم رياض: إذا حاربنا حرب جنرالات المكاتب في القاهرة فالهزيمة مُحققة، مكان الجنرالات الصحيح وسط جنودهم، وأقرب إلى المقدمة منه إلى المؤخرة.

وقلت مُستسلماً: مهما يكن، فقد حبست الدم في عروقنا ساعات!

قال ضاحكاً: تعيش وتأخذ غيرها!

وعشت “وأخذت غيرها”، على حد تعبيره، وأما هو – لهفى عليه – فإنه لم يعش ليأخذ شيئا، لكنه سيبقى دائماً مصدر عطاء لا ينفد لأمة تبحث عن المثل الأعلى، نفس بحثها عن السلاح الأقوى.

لم يكن عمر صداقتنا طويلاً، لم يزد على اثنتي عشرة سنة، فقد كان أول لقاء بيننا في موسكو سنة 1957، وكان في موسكو وقتها وفد عسكري مصري يبرم عقودا لصفقة سلاح، وكنت في موسكو في نفس الوقت، على موعد لحديث صحفي مع “نيكيتا خروشوف”، وكان وقتها نجما صاعدا في القيادة السوفيتية، بعد أن أصبح السكرتير الأول للحزب الشيوعي السوفيتي.

ودُعيت إلى حفل عشاء مع الوفد المصرى، أقيم له في قاعة الاستقبالات في وزارة الدفاع، وحضره معظم مارشالات الاتحاد السوفيتي الكبار، مالينوفسكى، وتيموشنكو، وجريتشكو، وروكسوسفكى.. وغيرهم، وكنت – والسفير محمد عوض القوني سفير مصر في موسكو وقتها – المدنيين الوحيدين في هذا الجو العسكري الخالص، وكنت أشعر بالغربة فيه.

وكان مقعدي على المائدة أمام ضابط شاب من أعضاء الوفد المصرى العسكري برتبة لواء، فهمت أنه قائد المدفعية المضادة في الجيش المصرى، وأن اسمه عبد المنعم رياض.. وبعد دقائق من بدء العشاء كنت أشعر بالعرفان له، لأنه تدخل لإنقاذي أثناء محاورة بيني وبين المارشال رمودينكو قائد الطيران السوفيتي الذى كان يحاول إقناعي بشرب الفودكا، بينما كنت أحاول أن أقنعه – بالإشارة – أنني سوف أدوخ إذا لمس طرف لساني قطرة واحدة من هذا السائل الأبيض الملتهب.

وكان عبد المنعم رياض يتحدث الروسية بطلاقة، ولم يكن هنا كثيرون يتحدثونها في هذا الوقت المبكر من العلاقات العربية – السوفيتية. وفى الليلة التالية التقينا مرة أخرى – ومصادفةً – في مسرح “البولشوى”، وكانت الراقصة الشهيرة “إيلينا إيلونوفا” تقدم آخر عرض لها لباليه رقصة البجع الشهير، ووجدته أثناء العرض على مقعد قريب من مقعدي، وتقابلنا في الاستراحة ما بين الفصلين لأقول له:

– لم أكن أتصور أن أجدك في الباليه.. كنت أتصور سهرات الضباط أكثر انطلاقا من أحلام الباليه وموسيقاه التعبيرية ومزيج الأضواء والظلال والألوان فيه.

وقال بسرعة وصراحة: – هل أنت من الذين يضعون الناس في قوالب، ويفاجئون إذا لم يجدوهم على مقاسها؟.

واعتذرت له صادقا. ومن يومها بدأت صداقة بيننا، قوية عميقة.

وفى أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات تعددت لقاءاتنا في القاهرة، إلى جانب مرات عديدة تصادف وجودنا معاً في موسكو ذات الوقت. وفى تلك المرحلة كانت تلفت نظري في أحاديثه عدة مسائل تتكرر باستمرار:

فهمه لدور الطيران في أي معركة قادمة مع إسرائيل، وكان له تصوير مبسط لموقع إسرائيل في المكان الذى تقع فيه من قلب العالم العربي، يقول فيه:

– تكاد إسرائيل أن تكون في هذا الموقع المطل على الساحل الشرقي للبحر الأبيض، أن تكون حاملة طائرات ثابتة في موقعها يحتفظ عليها الاستعمار بقوته الجوية التكتيكية، ووراءها الاحتياطي الاستراتيجي له مُتمثلا في أساطيله البحرية في هذا البحر الأبيض.

ثم يستطرد: ما هو السلاح الأساسي لحاملة الطائرات؟

ويجيب بنفسه: الطائرات طبعا!

ويستطرد: إذا أردت أن تضرب فبالطيران قبل غيره، وإذا أردنا ضربها فبالطيران قبل غيره، وإذا فقدت الحاملة طائراتها أصبحت مجرد لوح خشب طاف على سطح الماء.

وحرب الطيران هي حرب الانقضاض المفاجئ، حرب السرعة الخاطفة، حرب الأيام المعدودة على أصابع اليد الواحدة، وبعدها يكون النصر أو تكون الهزيمة.

– تقديره لأهمية العلم في أي معركة، وكان يعتبر أن العلم هو ميزة العدو علينا، باعتبار استعداده الإنساني لاستيعابه، ثم باعتبار حاجته إليه لتعويض نقصه البشرى في مواجهة فيض بشرى عربي.

ومن المؤكد أن عبد المنعم رياض ظل إلى آخر يوم في حياته طالب علم، وذلك أعظم ما يمكن أن يكونه أي إنسان مهما علا قدره وارتفع مقامه. وربما ساعد عبد المنعم رياض على حسن تقديره لأهمية العلم الحديث في المعركة، أنه كان بحكم عمله في المدفعية المضادة للطائرات، على اتصال مباشر بتطورات علمية واسعة الأثر، فإن المدفعية المضادة للطائرات أصبحت تعتمد على الصواريخ والتعامل بالصواريخ في حد ذاته مقدرة على الانطلاق إلى بعيد، كذلك فإن تعدد مصادر دراساته في بريطانيا والاتحاد السوفيتي، واستخدامه أكثر من لغة، الإنجليزية والفرنسية والروسية كلها بطلاقة، إلى جانب العربية بالطبع، أتاح له فرصة رحبة غير مقيدة.

وأذكر مرة في موسكو وكنت أزور كلية “فوروشيلوف” العسكرية، وقد أصبح اسمها فيما بعد أكاديمية القيادة العامة العليا للقوات المسلحة السوفيتية أن قال لي أحد الدارسين المصريين فيها: – إن عبد المنعم رياض الذى درس هنا قبل سنوات جعل مهمة الذين جاءوا بعده بالغة الصعوبة.

إن الجنرال يابتشنكو، وهو من كبار المعلمين السوفييت هنا، وكان له تاريخه في الحرب العالمية الثانية – لا يمل دائما من أن يكرر للدارسين العرب: – على هذا المقعد الرابع، “في الدورة الأولى التي اشترك فيها دارسون عرب في هذه الأكاديمية كان يجلس الجنرال رياض.

وفوق ذلك في هذه الفترة كانت أحاديث عبد المنعم رياض تعكس من بعيد تململه من بعض الأوضاع السائدة في القوات المسلحة في ذلك الوقت.

وكانت مشكلته أنه لا يستطيع أن يسكت ببساطة!

وكانت مشكلة الآخرين حياله أنهم لا يستطيعون الخلاص منه وإسكاته تحت أي غطاء، فلقد كان امتيازه في عمله لا يُنازع، ولم تكن له مطالب شخصية..

ولم يغير مسكنه الذى كان فيه بمصر الجديدة وهو شقة من أربع غرف في شارع جانبي صغير، وكانت تشاركه فيها شقيقته، وهى أستاذة بكلية العلوم بجامعة عين شمس. ولم يتزوج هو لأن السنوات التي كان يستطيع فيها الزواج قد انقضت وهو في دراسات بعيدة أو في مواقع خدمة في المعسكرات، ولم تتزوج هي الأخرى، لأنها أحست أن واجبها خدمته، وكانت أحاديثه دائماً عن “الدكتورة”، نابضة بحنان عميق وأصيل.

وعُرض عليه منصب سفير في تلك الأيام واعتذر، لأنه على حد تعبيره “ضابط وابن ضابط”، ثم إنه الآن لا يستطيع أن يترك “الدكتورة” التي أعطته أحلى سنوات حياتها طواعيةً وحبا.

وجاء تعيينه في القيادة العربية الموحدة، رئيسا لهيئة أركان حربها، حلا موفقا وسعيدا بالنسبة لكل الأطراف، بقى في الجندية، مهنته وعمله، وابتعد عن أسباب التململ، ثم ظلت حياته مستمرة في شقته الصغيرة تحت رعاية “الدكتورة” وفى حماها.

وفى هذه الفترة توثقت الصداقة بيننا أكثر، ففضلا عن الصلة الشخصية، تلاقى اهتمامنا في مسائل العمل العربي ومشاكله.

كانت هذه المسائل والمشاكل موضوعي الأساسي كصحفي، وأصبحت هذه المسائل والمشاكل موضوعا هاما بالنسبة لمسئوليته العسكرية في القيادة العربية الموحدة.

وهكذا جمعتنا مناسبات كبيرة، ليس في القاهرة وحدها، وإنما في الإسكندرية والدار البيضاء والخرطوم وعواصم عربية غيرها رأت مشاهد من تجارب العمل العربي المشترك.

وفى تلك الفترة ما بين سنة 1964، إلى سنة 1968، كان المتتبع لتفكير عبد المنعم رياض يلحظ أشياءً كثيرة تتبلور مع كل يوم وتتحدد أكثر:

بدأت معرفته بالعالم العربي، وحديثه عنه، وتصوره لإمكاناته، يكتسب دقة وحدة المعرفة المباشرة.

وبدأ حسابه لقدرات الجندي العربي والضابط العربي، في كل جيش من الجيوش العربية يعكس صدق التجربة التي تتم بالعمل اليدوي المباشر.

ثم بدأ تفكيره الاستراتيجي يرسم صورة كاملة وشاملة للطريقة التي يمكن بها أن تجرى المواجهة مع العدو، ولم يكن في تصوراته يتجاهل الحقائق، وإنما كانت الحقائق أساس تصوراته، إلى جانب عنصر المخاطرة المحسوبة التي لا غنى عنها في تقديرات أي قائد عسكري يريد أن يحارب بما يتوافر لديه ويجعل مهمته ممكنة، وليس القائد العسكري الذى لا يريد أن يحارب ويطلب ما لا يمكن توفيره له، ويجعل بالتالي مهمة غيره مستحيلة.

وفى مرات كثيرة كانت التصورات تجمح بنا ونحن في مناقشات معه، وتكون كلمته دائما بالحزم العسكري: Gentlemen, back to reality – أي أيها السادة.. عودة إلى الواقع.

وفى هذه الفترة ظهرت في تفكيره الصورة الأولى لما نسميه اليوم بالقيادة الشرقية، وكان من قلائل من يستطيعون الحديث عنها وعن إمكاناتها بثقة.

فقد كان يعرف الجبهات العربية المحيطة بإسرائيل من الشرق كلها.

ثم إن هذه الجبهات على مستوى الحكومات، وعلى مستوى قواتها المسلحة كانت تعرفه، وأكثر من ذلك تسلم بامتيازه وكفاءته.

وكانت كلمته في تلك الفترة دائماً “إنه من الشرق نستطيع الوصول إلى قلب إسرائيل أو على الأقل نطوله”.

ثم جاءت ظروف معارك يونيو سنة 1967، وسأحتفظ للتاريخ بتفاصيل حديثين طويلين مع عبد المنعم رياض في هذه الفترة:

– أولهما جرى بالتحديد يوم 13 مايو سنة 1967، وفى أعقاب محاضرة ألقاها المارشال مونتجومري قائد معركة العلمين الشهير في أكاديمية ناصر العسكرية العليا، وقد حضرت المناسبة مع مونتجومري، لأن الأهرام كان مشتركا في تنظيم رحلته إلى مصر، وحضرت ما تلاها من مناقشات اشترك فيها عبد المنعم رياض مع مونتجومري بذكاء لامع، ولقيني عبد المنعم رياض على باب الأكاديمية وسألني: إلى أين؟

قلت: عائد إلى الأهرام.

قال: أجيء معك إلى هناك وأعطني فنجان قهوة.

وجلسنا معا في مكتبي، وأحسست أن لديه شيئا يريد أن يقوله، وبالفعل كان لديه شيء بالغ الخطورة يلح على توقعاته.

فما الذي باح  به الجنرال الذهبي للأستاذ هيكل، وكان كانه يقرأ المستقبل. مستقبل الهزيمة ومستقبل الثأر من هذه الهزيمة هذا ما سنعرفه في الحلقة الثانية والأخيرة من هذا المقال عن الجنرال والأستاذ ومصر العظيمة بينهما.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock