… ويكمل الأستاذ محمد حسنين هيكل حديثه عن الجنرال الذهبي قائلا: هذه الجلسة التي امتدت أكثر من ساعة، أشهد أن ما سمعته من عبد المنعم رياض لم يختلف إلا في التفاصيل عن المجرى الذى سارت فيه الحوادث بعد ذلك إلى النكسة.
ولا أعتقد أن الوقت مناسب بعد لأن أستطرد في رواية هذا الحديث بأكثر من هذا القدر، ومهما يكن فتفاصيله محفوظة عندي للتاريخ.
– والحديث الثاني، كان بعد عودة عبد المنعم رياض من الأردن حيث قاد قواته في المعركة، وكان هذا الحديث بالتحديد يوم الحادي عشر من يوليو سنة 1967، وكان عبد المنعم رياض بعد انتهاء المعارك قد بقى فترة في الأردن، كتب فيها تقريراً مفصلاً عن سير العمليات.
وكان هذا التقرير بالذات محور ذلك اليوم، ومرة أخرى لا أعتقد أن الوقت الآن مناسب للاستطراد في روايته وتفاصيله هو الآخر عندي للتاريخ.
وفى عملية إعادة بناء القوات المسلحة، بعد الأنقاض التي تخلفت من النكسة، وقع اختيار الرئيس جمال عبد الناصر على رجلين عهد إليهما بالمهمة التي بدت في ذلك الوقت مستحيلة.
الفريق أول محمد فوزى قائدا عاما ثم وزيراً للحربية. والفريق عبد المنعم رياض رئيساً لهيئة أركان الحرب.
وفى هذه الفترة لم أكن ألتقى بعبد المنعم رياض كثيرا كما تعودنا من قبل، لأن المسئولية التي شارك فيها كانت فوق ما يحتمل البشر.
في هذه الفترة قابلته مرات معدودات، لكن التليفون كان يصل بيننا أسرع وأسهل.
– قابلته مرة في مكتب الفريق أول محمد فوزى، وقد دخل المكتب وأنا فيه جالس مع الفريق فوزى، وكان تصرف عبد المنعم رياض نموذجاً في الانضباط العسكري، توجه إلى الفريق أول فوزى وتحدث معه لبعض الوقت وهو في وقفته العسكرية التي لا تقبل رفع الكلفة فيما هو واجب، وبعد أن خلص من حديثه انتهى دور العسكري وبدأ دور الصديق، ولم يضع وقتا وإنما قال: سوف أنتظرك في مكتبي بعد أن تفرغ من حديثك مع سيادة الفريق.. وخرج.
وقلت ملاحظة على الانضباط العسكري، وقال لي الفريق أول فوزى، وفى عينيه ومضة حب: عبد المنعم؟.. ليس له مثيل، لم يكن في الاستطاعة أن يكون لي رفيق فيما كلفت به غيره.
ثم أتاحت لي ظروف زيارة الرئيس جمال عبد الناصر لموسكو في شهر يوليو سنة 1968، أن أرى عبد المنعم رياض كل يوم لمدة أسبوع كامل. وأن أسهر معه كل ليلة بعد أن ينتهى العمل – إلى ما بعد منتصف الليل. وكان عبد المنعم رياض عضوا في الوفد المرافق للرئيس جمال عبد الناصر إلى موسكو.
وكنت صحفيا يتابع محادثات الوفد في موسكو. وتركت فندق “سوفيتسكايا” الذى كان مقرراً أن أنزل فيه، وحملت حقيبتي إلى بيت الضيافة الذى كان ينزل فيه عبد المنعم رياض. وتحدثنا طويلا طويلا.
وقطعنا مسافات لا حدود لها في شارع جوركي تائهين، وسط الجموع المتزاحمة في أمسيات العاصمة السوفيتية وأحاديثنا مازالت متصلة. ومشينا أكثر من ليلة في حديقة السفارة المصرية في موسكو، ضيفي عشاء على الدكتور مراد غالب سفيرنا المقتدر فيها والأحاديث لا تنقطع.
وتركت عبد المنعم رياض في موسكو عائدا إلى القاهرة، لكنه فى الدقائق الأخيرة قبل السفر جاء إلى غرفتي وفى يده خطاب سميك وقال: تحمل هذا معك إلى القاهرة وتسلمه بيدك للفريق أول فوزى.
قلت له: ما هذا؟
قال: لا شأن لك به، ولكنه تقرير كتبته له لكى يكون على علم بمحادثاتي هنا.
وقلت: ألم تجد غيرى لهذه المسئولية المزعجة؟
– فكرت، ولكنى لا أطمئن أن أبعثه برقيا أو بالوسائل التقليدية، ثم إن أحداً لن يخطر له أنني أعطى التقرير لصحفي، وبالتالي فإن أحدا – إذا كانت هناك ملاحقة – لن يطاردك أنت بالذات!.
ووضعت التقرير في جيبي الداخلي كأنه مصيبة وقعت على رأسي.
وحين وصلت إلى القاهرة قلت للفريق أول فوزى: إن عبد المنعم رياض وضع في جيبي قنبلة وعلى أن أسلمها لك. وضحك الفريق أول فوزى بعد أن عرف الحقيقة وقال لي: لقد كنت أعرف أن هناك تقريرا من عبد المنعم رياض قادم إلى مع القادمين من موسكو، لكنه لم يخطر لي أن يكون معك.
قلت: كذلك كان تقديره.
قال بطريقة أستاذ العلوم العسكرية المتبحر: تقديره صحيح من وجهة نظر الإخفاء!
ثم قابلت عبد المنعم رياض بعد ذلك مرة، بعد أن اتصلت به تليفونيا أقول له: لدى صديق أريد أن أقدمه لك.
قال: – تعالى معه الآن عندي.
قلت: – ألا تسألني من هو؟.
قال ضاحكا: ليس لدى فضول الصحفي مثلك!.
وذهبت إليه وكان معي ياسر عرفات، وكانت متابعة النقاش بينهما متعة لا تقدر بالنسبة لي.
كان الحديث بينهما عن المقاومة، وعمل المقاومة، ومشاكل المقاومة، كان عبد المنعم رياض، وهو الجندي النظامي من الدرجة الأولى، خبيرا في الحرب الشعبية، ومن الدرجة الأولى أيضا، ولم يكن ذلك رأيي وإنما كان رأى ياسر عرفات، وهو صاحب تجربة عملية مباشرة جرت وتجرى على أرض المعركة ذاتها.
وفى هذه الفترة كلها، كان عبد المنعم رياض مصدر ثقة مريحة ومطمئنة في ظروف كان فيها الكثير مما يدعو إلى القلق والتشاؤم. وخلال هذه الفترة كلها شعرت بالقلق يسرى في صوت عبد المنعم رياض مرة واحدة، وكان ذلك يوم مظاهرات الإسكندرية وما شابها من حوادث التخريب، واتصل بي عبد المنعم رياض تليفونيا يقول بحدة منذ اللحظة الأولى:
ما الذى يجرى في هذا البلد؟.
قلت: – ما يجرى طبيعي، وهو أبسط تعبير عن التمزق الذى تعانيه جماهيرنا خصوصا جماهير الشباب.
قال: إذن فلا لزوم الآن للتمزق.. فلندعه ليوم آخر.
ثم استطرد: لا تتصور تأثير ما يحدث هنا على معنويات الجبهة.. ماذا أقول لضباطنا وجنودنا هناك.. هل أقول لهم أهلكم وراء الخطوط بدأوا يعانون من التمزق، وإذا بدأت الجبهة المدنية وراء الخطوط تعانى من التمزق، فكيف نحتفظ بتماسك الجبهة العسكرية؟.
قلت له: ليس الأمر بهذه الخطورة، وهو مجرد عارض عابر.
قال: ولكنى فهمت أن هناك تخريبا في المدينة، فهل يعقل أن يحدث ذلك الآن ونضطر إلى إنزال قوات من الجيش لحفظ الأمن والنظام.
واستطرد عبد المنعم رياض يقول:
إنني أدعو الله ألا أعيش وأرى يوما تنزل فيه قوات من الجيش لحفظ الأمن والنظام في الشارع.
وانتهى الحديث، لكنها كانت المرة الأولى التي أحس فيها بالقلق يشيع في صوته خلال عمله كرئيس لهيئة أركان الحرب.
ثم كانت المرة الأخيرة التي رأيت فيها عبد المنعم رياض، وكان ذلك منذ حوالى الشهر تقريبا، واتصل بي يقول: ماذا تفعل الليلة!
قلت: لا شيء.
قال: في المساء سوف أمر عليك.
وكان حديث تلك الليلة من أهم أحاديثنا، ولم أكن أدرك أنه آخر أحاديثنا على الإطلاق، ولست الآن في صدد سرد تفاصيل هذا الحديث، وإنما لعلها فرصة لعرض لمحات منه، تشير إلى بعض شواغله الأخيرة:
كان هناك تحليل نفذ منه لأزمة الشرق الأوسط، على ضوء أوضاع الاستراتيجية العالمية.
كانت هناك ثقة كاملة منه في إمكانية الانتصار في معركة تعطى إمكاناتها المناسبة، وإذا أعطيت وقتها الكافي.
كان هناك يقينه، ليس بحتمية المعركة فحسب، وإنما بضرورتها، وأذكر قوله بالحرف: لن نستطيع أن نحفظ شرف هذا البلد بغير معركة، عندما أقول شرف البلد، فلا أعنى التجريد هنا، وإنما أعنى شرف كل فرد، شرف كل رجل وكل امرأة.
كان شديد الوعى بأهمية قضية التنمية، وأذكر قوله:
لا تتصور ضيقي كلما طلبنا اعتماداً إضافياً للتسليح، لأن شعبنا في حاجة إلى كل قرش ليستثمره في المصانع الجديدة، ولكن ماذا نفعل؟ إذا ضاع شرف الأمة، فلن يستطيع أي قدر من الغنى أن يعوضنا عنه. ليس الشرف هنا مجرد مسألة رمزية. وإنما شرف أي أمة هو مصدر ثقتها الوحيد بأنها تستطيع أن تتصرف بإرادتها، وأن تحقق ما تشاء.
كان اهتمامه بالقيادات الجديدة التي ظهرت في القوات المسلحة زائدا، وكان قوله: لا تصدق ما يقال من أن القادة يولدون.. الذى يولد قائدا هو فلتة من الفلتات لا يقاس عليها كنابليون مثلا.
القادة العسكريون يُصنعون، يصنعهم العلم والتجربة والفرصة والثقة.
ما نحتاج إليه هو بناء القادة… صنعهم.
القائد هو الذى يقود، هو الذى يملك مقدرة إصدار القرار وليس مجرد سلطة إصدار القرار، ويدخل التوقيت السليم في المقدرة على إصدار القرار.
في الدراسة العملية لتصرفاتنا في المعركة كانت قرارات الكثير من قوادنا قرارات سليمة، لكنهم ترددوا، لم يعطوها في الوقت المناسب، ولا فائدة في قرار مهما كان سليماً إذا جاء بعد الوقت المناسب له بخمس دقائق، لأن الموقف الذى يواجهه يكون قد تغير فالمعركة لا تنتظر أحداً.
في نظري.. فإن قرارا سليماً بنسبة ستين في المائة في الوقت المناسب خير من قرار سليم مائة في المائة ويجيء بعد الوقت المناسب بخمس دقائق.. ليصبح بغير فائدة على الإطلاق.. بل ليضر ضررا بليغا.
كانت هناك عبارتان تعودان باستمرار إلى حديثه كأنهما اللحن الأساسي في سيمفونية شامخة:
العودة إلى سيناء.
الجبهة الشرقية موجودة ومؤثرة.
ومن الغريب أنه في نهاية حديثنا تلك الليلة، وجدنا أنفسنا بقرب حياته الشخصية، وكان في مشروعاته ذات يوم قبل الحرب، مشروع زواج لم يتم، وقال لي عبد المنعم رياض: هل تعرف؟ لم أعد أفكر في هذا الأمر الآن.. ولم يعد لدى وقت للتفكير فيه، ثم إن الظروف غير ملائمة، وأنا أريد أن أعطى حياتي كلها للمعركة.
وكان الحديث قرب الخاتمة، وقمنا من حيث كنا جالسين نمشى معاً نحو الباب الخارجي، وكان هو يقول: بعد المعركة، من يعرف كيف تسير الأمور.. ربما عاودت التفكير مرة أخرى في مشروع الزواج.. أنت تغريني بأحاديثك عن البيت السعيد والأولاد، ولكن الوقت متأخر بالنسبة لي في مسألة الأولاد.
عندما يجيء السلام سوف أبحث عن قطعة أرض صغيرة وأبنى عليها بيتا صغيرا تحيطه الزهور.. وسوف أقرأ كثيرا وربما فكرت أن أكتب، وقد تكون هناك زوجة ترضى بالعيش مع عجوز مثلى.
لا أتصور أن أفعل شيئاً آخر غير ذلك.. لا أتصور أن أجد نفسى موظفا مدنياً أو سفيرا.
ثم استطرد: إنني أفهم الجنرال ماك آرثر، عندما قال “إن الجنود القدامى لا يموتون.. ولكنهم يبتعدون فقط”.
وأكاد في هذه اللحظة أسمع صوت عبد المنعم رياض وأشعر بيده تصافح يدى في آخر مقابلة بيننا قبل شهر، وهو يقول: “الجنود القدامى لا يموتون.. لكنهم يبتعدون فقط”. ثم أسكت قبل أن تغلبني الدموع.
انتهى مقال الأستاذ هيكل الصادر في جريدة الأهرام الموافق يوم الجمعة 14 مارس 1969، ولم تنتهِ دروسه العظيمة، ومعانيه الجليلة عن واحد من أعظم قادة الحرب والاستراتيجية في تاريخ العرب الحديث، ولمدى زمني يمتد الأكثر من قرنين، منذ حملة نابليون عَلى رأس جحافل جيوشه الفرنسية عَلى مصر في عام ١٧٩٨، حتى يومنا هذا.
رحم الله الجنرال الذهبي عبدالمنعم رياض وكل من سار عَلى درب الشهادة والبطولة التي رفع راياتها رياض، ورحم الله من كان له صديقا وقريبا له في الفكر والوعي والانتماء، رحم الله الأستاذ هيكل الذي بصدق مشاعره، ودقة رؤيته، عرّفنا بعض من مسيرة وقيمة الجنرال الذهبي.. رحمهما الله ورحمنا.