رؤى

عبد الرحمن الغافقي التابعي المُحدّث.. بطل بلاط الشهداء

في شهر رمضان من العام الرابع عشر بعد المئة الأولى من الهجرة النبوية المُشرفة، ارتقى شهيدا رجل إذا عُدت القامات في أمة العرب؛ كان في أول الصفوف.. إنه التابعي العالم المُحدّث المجاهد عبد الرحمن الغافقي العكّي اليمني الذي تتلمذ على أيدي العديد من صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم- وعلى رأسهم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

جمع عبد الرحمن إلى جانب علمه وورعه، فروسية وإتقانا لفنون القتال وخطط الحرب – لا تبارى؛ فلما رأى في نفسه استعدادا وأهلية للجهاد في سبيل الله، قَدِمَ دمشق في ولاية سليمان بن عبد الملك؛ فصار مقربا منه وتولى أرفع المناصب؛ لكن الغافقي لم يكن من الذين يركنون إلى الدعة أو يفرحون بتقلد الوظائف العليا؛ استأذن للسفر إلى الأندلس التي ما إن وصل إليها إلا وانخرط في صفوف المجاهدين؛ حتى وصل إلى أعلى مراكز القيادة، وصار أحد المقربين من القائد البطل السمح بن مالك الخولاني الذي كان قدومه الأندلس مطلع رمضان من العام المئة من الهجرة، حاكما للأندلس مكلفا من الخليفة عمر بن عبد العزيز.

عاون الغافقي الحاكم الجديد في إصلاح أمور البلاد والعباد ورأب الصدع بين العرب والبربر؛ فقضى مع السمح على الفتن والاضطرابات، ثم فرغا لاستئناف الفتوحات التي كانت قد توقفت لفترة.

جهز المسلمون الجيش على أفضل ما يكون، ثم كان التحرك نحو سبتمانيا (الرفييرا) التي دخلها المسلمون دون عناء واتجهوا بعدها إلى أربونة فاتخذوها مركزا للعمليات الحربية، ثم سار الجيش بمحاذاة نهر الجارون فاتحا حتى وصل إلى تولوز حيث وقعت معركة كبرى، دارت الدائرة فيها على جيش الأندلس، واستشهد فيها السمح؛ ما اضطر المسلمين إلى التراجع، وكانت هذه أول نكسة يُمْنَى بها المسلمون في بلاد الغال (فرنسا).

اختير الغافقي قائدا عاما للجيش وواليا على البلاد واستمرت ولايته مدة مئة يوم، انصب اهتمامه فيها على إعداد الجيش لجولة جديدة من الصراع.. ثم كان مجيء عنبسة بن سحيم الكلبي الذي أمضى سنوات حكمه الأربع الأولى في تهدئة وتحسين الاوضاع الداخلية، ثم جهز الجيش واستأنف الجهاد في بلاد الغال فاتحا منتصرا حتى وصل إلى مدينة سانس على بعد ثلاثين كيلوا مترا فقط من باريس.

ولكن عنبسة أراد العودة إلى الأندلس خشية أن يُقطع الطريق إليها، فلم يكن هذا التوغل سوى غارة للاستكشاف وجمع المعلومات وقهر الأعداء وهزيمتهم نفسيا.. إذ لم يُخَلّف القائد حاميات في المدن المفتوحة، وحدث ما كان يخشاه القائد العظيم، إذ داهمت الجيش جموع غفيرة من الفرنجة في طريق العودة، وصمد المجاهدون لفترة إلا أن ارتقاء عنبسة شهيدا؛ فت في عضد الجند.

تبع عذرة الفهري، عنبسة في قيادة الجيش وحكم الأندلس، فعاود غزو بلاد الغال واقتحم سبتمانيه وتوغل داخل حوض نهر الرون.

ثم كانت ولاية الغافقي الثانية، فاهتم بإصلاح ذات البين وتيسير أحوال الناس وتوفير الحياة الكريمة لأهل البلاد، وإن كان تفكيره لم يغادر تولوز يوم أن ارتقى السمح شهيدا.. وكان عزم الغافقي على معاودة القتال من جديد؛ فجهز الجيش ودعا إلى الجهاد، فاجتمع لديه نحو مئة ألف مقاتل.

“يجب أن تظل هذه المعركة واحدة من أهم الأحداث الكبرى في تاريخ العالم، لأنها حددت ما إذا كانت الحضارة المسيحية ستستمر أم سيسود الإسلام جميع أنحاء أوروبا”. المؤرخ البلجيكي غودفروا كورث

دارت رحى المعركة الكبرى بين العرب والفرنجة هناك ما بين مدينتي تور وبواتييه في رمضان عام114هـ

ولقد شكلت المعركة التي انتهت بانتصار قوات الفرنجة وانسحاب جيش المسلمين بعد مقتل الغافقي نهاية للتقدم العربي داخل القارة الأوروبية؛ لذلك اعتبر مؤرخو الفرنجة في القرن التاسع، نتيجة هذه المعركة بمثابة حكم إلهي لصالح الفرنجة، كما اكتسب شارل مارتل من حينها لقب المطرقة.

معركة بلاط الشهداء

كما أشاد المؤرخون المسيحيون المتأخرون في فترة ما قبل القرن العشرين بشارل مارتل وعدّوه بطل المسيحية، واصفين المعركة بنقطة التحول الحاسمة في الكفاح ضد الإسلام، ما حفظ المسيحية كديانة لأوروبا.

وقد عدّها رانكه علامة فارقة في واحدة من أهم الحقب في تاريخ العالم، وعلى النقيض انقسم المؤرخون المحدثون الآخرون حول أهمية المعركة، واختلفوا حول ما إذا كانت المعركة  بنتيجتها سببا لإنقاذ المسيحية وإيقاف الغزو الإسلامي لأوروبا. وهي التي أسهمت في تأسيس الإمبراطورية الكارولنجية وهيمنة الفرنجة على أوروبا في القرن التالي. ويتفق معظم المؤرخين على أن نشأة القوة الفرنجية في أوروبا الغربية حددت مصير القارة، وأن هذه المعركة أكدت سلطتها.

أما المصادر العربية فقد أطلقت على المعركة اسم معركة بلاط الشهداء، تخليدا لذكرى الأبطال، ونقل عن ابن حيان القرطبي أن الأذان لبث عصورا طويلة يسمع في موقع المعركة.

ومن حيث تفاصيل المعركة لا يمكننا القطع بموقع محدد لها- فالبعض يؤكد أنها وقعت في موساي لاباتيّ ، بينما يرى آخرون أنها وقعت في منطقة تدعى خندق الملك حيث اكتشفت هناك حديثا سيوفا عربية، والأرجح أنها حدثت في السهل الممتد بين مدينتي تور وبواتييه – كما لا يمكننا تحديد أعداد المقاتلين في كلا الجانبين، والمعلومة الوحيدة المجزوم بها أن جيش الفرنجة كان بلا سلاح فرسان!

ويذهب مؤرخون إلى أن سير الحملة انطلق في البداية من ساراجوسا نحو كاتالونيا، وهو أقرب أقاليم الأندلس إلى بلاد الغال، ثم إلى سبتمانيا فعزز الغافقي من وجود الحاميات فيه، وعاد بعدها إلى بنبلونة في شمالي أيبيريا، فانطلق منها وعبر ممر رونسفال في جبال البيريه، وكان هدفه أكتانيا، ومنها سار شمالا ثم في الاتجاه الجنوبي الشرقي نحو آرل، فأعاد فتحها وحصّن المسلمين فيها، ثم عاد إلى أكتانيا.

كان أودو دوق أكتانيا قد جمع جيشا قاتل به جيش الغافقي في معركة نهر الجارون التي انتصر فيها المسلمون، وكبدوا جيش أودو خسائر كبيرة.

بعد هذه المعركة، فتح الغافقي أكتانيا بالكامل، بما في ذلك مدينة بوردو عاصمتها. ثم واصل الغافقي إلى بواتييه ففتحها، ثم تور الواقعة على نهر اللوار ففتحها أيضا.

رأى بعض المؤرخين أن الغافقي لم يكن ينوي التقدم أكثر من ذلك، بل كان ينوي تحصين المدن المفتوحة وتقويتها لتصبح ثغرا للمسلمين، كما هي الحال في سبتمانيا، ولم يكن معه من الجند ما يكفي لفتح مدن أكثر، بعد مسيرته الطويلة في جنوب بلاد الغال وغربها، وقتاله الباسل في معركة نهر الجارون. لكن انتصارات المسلمين في غاليا دفعت شارل مارتل للتحرك لمواجهة جيش المسلمين، خاصة بعد أن لجأ إليه منافسه أودو بمن بقي معه من رجاله، ليساعده على استعادة أكتانيا، فقبل شارل مساعدته على أن يكون ولاء أودو لدولة الفرنجة، فوافق أودو على ذلك.

جمع شارل مارتل جيشًا من المرتزقة ومقاتلين من حدود الراين ومن بورغانديا.. وكان عبد الرحمن قد وصل إلى تور بمن تبقى من جيشه، بعد معاركه في أكتانيا وكاتالونيا وسبتمانيا و قد خَلّف وراءه عددا من الحاميات.

استدرج شارل مارتل جيش المسلمين المتحصن في تور إلى سهل يقع غرب رافد نهر اللوار، بأن أرسل شارل مجموعات صغيرة من طلائع جيشه إلى الضفة الشرقية للنهر، وعندما علم بأمرها الغافقي، أرسل مجموعات للاستطلاع، عادت لتخبره بقلة عددهم وسهولة القضاء عليهم، فخرج المسلمون من المدينة لمواجهتهم، وعبر الغافقي بقواته إلى الضفة الشرقية، فتحرك شارل بقواته باتجاه جيش المسلمين. وعندما فوجئ المسلمون بأعداد أكثر مما قدرتها فرق استطلاعهم ارتدوا بقواتهم إلى السهل بين تور وبواتييه.

تقدم شارل بقواته ونزل في مواجهة جيش المسلمين الذي تحرك نحو الجنوب باتجاه بواتييه استعدادا للمعركة، بينما تجمع جيش شارل جهة الشمال باتجاه تور.

وتختلف عديد من المصادر التاريخية على  تاريخ بدء وانتهاء المعركة وكم كانت مدتها، والمؤكد أن المناوشات استمرت بين الفريقين لأيام، إلى أن لجأ المسلمون للهجوم في اليوم الأخير بفرسانهم على جيش شارل، الذي تحمّل مشاته هجوم المسلمين ببسالة، وبدا كما لو أن المسلمين اقتربوا من النصر. إلا أن شارل أرسل فرقًا يعتقد أنها كانت بقيادة أودو هاجمت معسكر المسلمين من الخلف “معسكر الغنائم” ما دفع المسلمين لمحاولة إنقاذ الفيء.

حاول الغافقي ومن بقي من جنوده معه الثبات في القتال والسيطرة على الموقف بعد أن اضطربت صفوف المسلمين، وظل يقاتل حتى ارتقى شهيدا.

نجح الجند المسلمون في الدفاع عن معسكرهم حتى نهاية اليوم، وفي الليل، اجتمع قادة الجيش ورأوا أن ينسحبوا ليلا بعد أن فقدوا قائدهم عبد الرحمن الغافقي. وفي اليوم التالي، عندما وجد الفرنجة أن القتال لم يتجدد تخوفوا من أن يكون ذلك كمينا، إلى أن استطلعت قواتهم مخيمات المسلمين التي تركوها وراءهم فوجدوها فارغة.

لم تتوقف غزوات المسلمين في بلاد الغال رغم الهزيمة في المعركة، بل استمرت بعدها مباشرة، فأرسل الوالي الجديد عبد الملك بن قطن الفهري حملة يقودها يوسف بن عبد الرحمن الفهري- غزت بلاد الغال واجتاحت آرل، ثم مدينة سانت ريمي وأفينيون، ثم تابع الوالي عقبة بن الحجاج السلولي تلك الغزوات فسيطر على بورغونية، حتى بلغت حملته بيدمونت بشمال إيطاليا.

ثم انشغل ولاة الأندلس بمشاكلهم الداخلية وتكالبهم على السلطة، ففقدوا المناطق التي سيطروا عليها في بلاد الغال، الواحدة تلو الأخرى حتى لم يبق بأيديهم في عهد يوسف بن عبد الرحمن الفهري والي الأندلس الأخير سوى أربونة فقط، والتي سقطت نهائيا عام 759 م، عندما أمر عبد الرحمن الداخل بإجلاء المسلمين من المدينة. ومن ناحية أخرى، أنشأ شارلمان حفيد شارل مارتل بعد ذلك الثغر الإسباني في البرانس لتكون بمثابة منطقة عازلة عن مناطق المسلمين خلف البرانس.

يختلف كثير من المؤرخين حول الأهمية التاريخية لمعركة بلاط الشهداء إذ يذهب كثيرون إلى أنها ذات أهمية كبرى إذ أوقف انتصار الفرنجة فيها تقدم المسلمين في أوروبا والذي كان سيبلغ نهايته بتحول أوروبا إلى الإسلام، وانتهاء عصر المسيحية فيها، وقد آثار شارل مارتل إعجاب الأوربيين جميعا، ورفعوه إلى منزلة القديسين وقال عنه كارل فريدريش فيلهلم شليغل: لقد حفظت سواعد شارل مارتل الأمم المسيحية الغربية من قبضة الإسلام المدمرة.

وكان المؤرخ الإيطالي فرانكو كارديني في كتابه “أوروبا والإسلام” قد قلل إلى حد كبير من أهمية هذه المعركة إذ قال: “إنه من الحصافة أن تقلل من أهمية هذا الحدث لنحاول نفي الصفة الأسطورية عنه، إذ لا يجب أن يعتقد أي شخص الآن أنه كان حاسمًا”.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock