عام

النسق الصوتي في القرآن الكريم.. وأولويات التفاعل مع النص الحكيم!

… واللغة إيعاز وإلغاز وبيان وتبيان وشطط والتزام وحقيقة ومجاز، وما بين المفردات السابقة تتعدد علائق التشابك، ومنها ما يتعلق بالصوت أولا وتأتي وشيجة المعنى تالية، ومنها ما يسبق فيه المعنى ما سواه.

بيد أنَّ اللغة نظام صوتي في الأساس، ومن المفترض أنَّ تجاوز هذا النظام الصوتي إلى ما يليه، لا بد أن يكون وفق خطوة علمية واضحة، وإلا كان هذا التجاوز خبط عشواء لا يؤدي إلى شيء.

هذا النظام الصوتي الذي يبدو مكتملا إذا ما قُورن بغيره، لا يحمل فجوات تنهك بنيته ولا تصدعاتٍ تظهره في غير الحال التي عليها باطنه، هذا النظام اللغوي يمثل نسقًا يمتلك من أدوات الحكم الداخلية ما يجعله بمعزلٍ عن معاول الهدم الخارجية وإن تعددت، هذا النسق الصوتي لا يخاطب جانبًا واحدًا من الإنسان بل عدة جوانب، كالعقل والحس والشعور والحدس والذائقة وغيرها،  يخاطبها كل على حِدة أو يخاطبها مجتمعة، وهي من أجل أن تنتظم في عملها دون تعارض عليها أن تنتظم نسقًا صوتيًا معينا لفترة طويلة ولعدد كبير من المرات، تستمع وتردد وتنضبط به، من أجل أن تعمل وفق هذا النسق، وتنتج ما يلائم خصوصيتها الإنسانية، دون مفارقة واضحة المعالم لما عليه الآخرون.

وبالتأمل في النص القرآني يمكننا أن نجد فيه مفهوم البنية كأفضل مثل لها، فهو نسق واحد مترابط ترابطًا جليًا تعبر عنه علائق كثيرة بين آياته وسوره، وكمنطلق أساسي  في الإسلام فإنَّ للقرآن هيمنةً مطلقةً على ما دونه من النصوص، وأدق ما يمكن أن يكشف هذه الهيمنة هو بنية القرآن كنظام محكم ذي إطار، ولا شك أن النسق الصوتي للنص القرآني هو من أنصع الأمثلة التي يمكن الاعتماد عليها في شرح ما نرمي إليه، فهو نص متفرد من حيث إيقاعه المطلق المنسجم والذي يحمل تنوعًا واضحًا دون رتابةٍ، كما يجمع بين التوازن والتقابل بين الألفاظ والجمل، مع دقة الفواصل وتنوعها بشكل يدعو إلى الدهشة.

إنَّ من يحاول تجاوز النظام الصوتي للنص القرآني، دون أن يستكمل ما يجب عليه عمله، إلى التفسير أو التأويل أو كشف الدلالة أو البلاغة ، يكون قد أخطأ خطأ كبيرًا، وهو كمن نزل ساح الوغى ليجالد النصال، دون درع أو سلاح، فالنسق الصوتي للنص القرآني لا بد له من الترداد على طريق “وأنّه لا يخلق من كثرة الرد”. وهذا النسق يتطلب الإنصات للنص القرآني بوصفه نظمًا يكتنف مفرداته وتراكيبه وألفاظه على وجه الخصوص، كما يتطلب هذا الإنصات الوعي بكون كل مفردة تحتل مكانها تمامًا في سياق الجملة وبنية الآية وترتيبها في السورة، بل وموقع السورة وترتيبها في المصحف وهذا أمر من الأهمية بمكان حتى قيل “إنَّ آيات القرآن جاءت على حسب الوقائع تنزيلاً وعلى حسب الحكمة ترتيلاً”. هذا الإنصات الذي نحن به مأمورون،  لابد أن يستمر ولا ينقطع – بالقطع مع مداومة القراءة- وإلا صار هجرًا، والهجر لا يعني انقطاع الصلة بالنص القرآني فقط؛ بل يعني حالة من الحجب، وهذا الحجب- غالبًا- ما يتحول إلى جفوة وعداء.

عن النسق الصوتي للنص القرآني يقول الدكتور محمود ديب “في النسق الصوتي القرآني ترد ظاهرة الانسجام المطرد والملاءمة بين الصوت والمضمون دون أن يخضع النظم للضرورات الصوتية في الفاصلة كما خضع الشعر لها أحيانا كثيرة وهو ما يثبت من خلال التطبيق أنَّ النسق الصوتي لم يعد حضوره في النسق العام حضورا تحسينيا لفظيا أو معنويا مثل ما صنّفه الدارسون القدامى في قائمة علم البديع وإنَّما يشكل في ظاهرتيه: الإيقاعية الداخلية من نحو ظاهرة انعدام الرتابة، التكرار،  التقابل وغيرها. والإيقاعية الخارجية المتمثلة في مهمات صوتية تؤديها  الفاصلة على مستوى المفردة والآية ونسق السورة إضافة لوسائل  صوتية أخرى استخدمها النسق للدلالة على المضمون. يشكل هذا وغيره  مع الأنساق الأخرى نسيجًا متلاحمًاً يخدم المضمون ويحقق الجمالية في آن”.

ألا يعني ذلك أنَّ النسق الصوتي للنص القرآني عميق الصلة بالمضمون بدرجة لا تتيح أدنى درجات من التناول الصحيح له بمعزل عن الاستماع والإنصات المتعدد الذي يفتح للمتلقي آفاقًا للوعي بالنص؛ ومن ثم التعاطي معه بالقدر الذي يتناسب مع ما فضل الله به خلقه بعضهم على بعض، من رجاحة في العقل، أو قدرة في الحس.

“وللحركات الصرفية والنحوية في السياق الصوتي أهمية فهذه الحركات ما هي إلَّا مظاهر الكلم، حتى إنَّ الحركة ربما كانت ثقيلة في نفسها لسبب من أسباب الثقل أيّاً كان، فلا تُعْذَبُ ولا تُسَاغُ، وربما كانت أوكس النصيبين في حظ الكلام من الحرف والحركة، فإذا هي استعملت في القرآن رأينا لها شأناً عجيباً، ورأينا الأحرف والحركات التي قبلها قد امتهدت لها طريقاً في اللسان، واكتنفتها بضروب من النغم الموسيقي حتى إذا خرجت فيه كانت أعذب شيء وأرقّه، وجاءت متمكنة في موضعها، وكانت لهذا الموضع أولى الحركات بالخفة والروعة، وهذا النظم الموسيقي في القرآن  خاص به لا يتفق فيه مع نظم آخر”.

وقد بقول قائل.. أنَّ النص القرآني يصعب على معظم أبناء العربية فهمه، فما بالك بغير أبنائها، لكن ذلك ليس فيما يتعلق بالنسق الصوتي القرآني، يقول تعالى في سورة القمر” وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ40″

فالقرآن ميسر بالذكر والتدبر له لا يكون إلا بكثرة ذكره، فإذا أردنا أن ندخل المسألة في إطار ثنائي نهدف منه إلى الحصر والتبسيط، سنرى أنَّ الذكر والتيسير، سيكونان في مقابل اللأي والتفسير، وذلك لأنَّ مبارحة التعرض للنسق الصوتي للنص القرآني دون الوصول إلى حالة الاكتمال التي يعطي النص بعدها مِلاكه لمن أراد له الله من عباده، لا تؤدي إلى كبير نجاح حتى وإن امتُلكت ناصيةُ اللغة، فالنسق اللغوي للنص القرآني يرتبط أيما ارتباط بنسقه الصوتي بل هما في الحقيقة لا يفترقان، وارتباط هذين النسقين دون غيرهما هو ما يؤكد كونه” قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ “، ولكن كثيرًا ممن يرون بالنص القرآني عوجًا لم يفطنوا إلى أنَّهم لم يستوفوا شروط التعامل مع النص القرآني وفق تراتبية أنساقه الصوتية واللغوية والمعرفية وغيرها، والنسق الأول هو ما يسمح بتجاوز هذه الفروق بين المسلمين من أبناء العربية وغيرهم.

ونحن إذ نطمح إلى خطاب ديني مستنير يعتمد النص القرآني كأساس ومنطلق معرفي لا بد لنا من امتلاك أدوات التعامل مع النص القرآني بأنساقه المتعددة، كما داخل بنية النص القرآني ذاته والتي يتجاور فيها الخطاب التشريعي والخطاب القصصي والخطاب الوعظي، في تناغم لا تحده مغاليق بعينها، إنما هو مفتوح على فضاءاته وما يعتمل فيه من تفاعلات تؤكد حيويته وتجدده الدائمين.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock