رؤى

ثورة المرئيات.. وفض الارتباط بين المعنى والقوة

في المقال السابق.. وصلنا إلى نتيجة مفادها: في زمن “الحرب الباردة”، كان الهيكل الدولي القائم على قطبين، قد استند إلى وجود ترابط نسبي بين القدرة على صنع المعنى (تقديم رسالة عالمية) والمقدرة على صنع القوة (على الصعيدين الاقتصادي والعسكري)، من جهة أخرى.. حينذاك اضطلع القطبان بوضوح بدور صُنّاع المعنى خارج نطاق حدودهما؛ إذ كانا ينسبان إلى نفسيهما القدرة على إيجاد حل شامل ومترابط، لما يمكن تسميته “اللغز العالمي” وتسخير الموارد الرمزية والمادية، لحل هذه المعضلة.

أما الآن، فإن ثمة أدلة تشير إلى التغير الحاصل في هذا الصدد؛ إذ، إن الفجوة تتزايد بين معدل الإنتاج المادي ومعدل صنع المعنى.. هذه “الفجوة”، التي تساهم في فض الارتباط بين المعنى والقوة، يمكن أن نلامسها عبر ملاحظة أن التغير إياه، لم يؤد إلا إلى التوسع “السلبي” في نطاق “إمكان نقل العوامل الفاعلة”؛ بمعنى: تضاؤل إمكانية نقل المكاسب التي تتحقق لدى أحد اللاعبين الدوليين، في مجال معين (الدبلوماسي أو الاستراتيـﭽـي مثلا) إلى مجال آخر (اقتصادي أو تجاري).. وربما هذا يفسر نزوع القوة الاقتصادية والقوة السياسية إلى السير في اتجاهين، يبدو أن التباعد بينهما سوف يزداد.

فض الارتباط

ضمن أمثلة متعددة، تفيض عن حاجتنا في الاستدلال على مسألة “فض الارتباط” بين المعنى والقوة، نكتفي بذكر الأمثلة التالية..

في مقدمة هذه الأمثلة، يأتي التناقض الصارخ بين الدراية التقنية الدولية للولايات المتحدة الأمريكية، على الصعيد “الدبلوماسي/الاستراتيـﭽـي” والتراجع المتزايد لمصادر رخائها الاقتصادي الداخلي (زيادة الاستهلاك، ضعف الاستثمارات، تقلص وجود سياسة صناعية خارج البحوث العسكرية والفضائية).. وهو التناقض الذي يكتسب أهمية متزايدة، من حيث كونه لا يتعلق بممارسة الإرادة فحسب، وإنما يطال مدى الصعوبة البالغة التي تكتنف صنع “الهيمنة”.

صحيح أن الولايات المتحدة حاليا تحاول إعادة وضع تعريف موسع لمفهوم “تقاسم الأعباء”؛ الذي لا يفرض على “القوى التابعة” أن تتحمل كلفة حمايتها المباشرة (أوروبا) أو الموسعة (الخليج) على نحو ما يُشار إليه في كثير من الأحايين فقط؛ بل إضافة إلى ذلك، التنازل عن بعض الخيارات الاقتصادية والمالية.. إلا أنه يبقى من الصحيح أيضًا أن الولايات المتحدة لم تنجح حتى الآن، خارج نطاق المجال “السياسي/الاستراتيـﭽـي” (إذ كان النجاح أمرًا متوقعًا)، في تحويل ألمانيا واليابان عن سياستهما النقدية، أو في فرض تنازلات جديدة على أوروبا، أو زيادة حجم التنازلات القائمة.

ولعل هذا نفسه ما يؤكد على الأهمية المتزايدة التي يكتسبها التناقض إياه، خاصة إذا لاحظنا أن عالم المنافسة الاقتصادية الدولية، ينحو في عصرنا الحالي إلى الفصل بين شبكات البحوث الاقتصادية والعسكرية (محافظًا بذلك إلى حد ما على قدر من التميز المتزايد بين القوى الاقتصادية والقوى العسكرية).. أيضًا، إذا لاحظنا أن تضاؤل تأثير البحوث العسكرية على البحوث المدنية، سوف يؤدي ـ وإن ببطء نسبي ـ إلى زعزعة إحدى الآليات الأكثر فاعلية في القوة الأمريكية (إذ الإبداع في المجالات المدنية هو الذي يمهد الطريق للإبداع في الميادين العسكرية، وليس العكس).

أيًا يكن الأمر، فإن التناقض المشار إليه يبدو صارخًا بدرجة أكبر، وإن كان معكوسًا لجهة “العجز في المعنى”، في حال اليابان، كمثال آخر.. إذ يتضح عدم التناسب بين النموذج الثقافي الوطني، وإمكانية تعميمه على النطاق العالمي. فاليابان، لا تبدو عاجزة فحسب عن “تأمل” العالم، ما يجعلها مستوردة لـ”المعنى” بالأحرى، ولكن ربما تأبى القيام بذلك من أجل الحفاظ على تميزها، أو: ربما تعجز عنه لافتقار النموذج الياباني إلى “الجاذبية”، وعدم قابليته إلى التصدير (إشكالية اللغة تأتي في مقدمة الأسباب، قطعًا).. وفي الحالين، فإن التناقض يعد تعبيرًا عن “وجود قوة من دون رسالة”.

وإذا كانت اليابان تقدم النموذج الأمثل على مسألة فض الارتباط في النظام الدولي، بين “المعنى والقوة”، فإن أوروبا، كمثال أخير، تقدم هي الأخرى نموذجًا لا يقل كثيرًا من حيث الأهمية..

الضعف الأوروبي

إذ يكفي أن نشير، في هذا المجال، إلى مدى الصعوبة التي تواجهها أوروبا في التوفيق بين معدلات بنائها الاقتصادي والسياسي؛ هذا بالإضافة إلى مدى الصعوبة في صنع “قيم مشتركة” (أي: “نموذج عالمي” يتجاوز مجرد اجتماع الإرادات الوطنية وحده).. ولعل هذا نفسه، ما يبرر “الضعف” الذي بدت عليه أوروبا، في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية عبر المفاوضات التجارية بينهما، رغم امتلاكها لمقومات القدرة على المنافسة الاقتصادية. أضف إلى ذلك، ما فرضته الولايات المتحدة على أوروبا، من اتباع استراتيجيتها الخاصة بالحرب في أوكرانيا، رغم كل المبررات الأوروبية التي عُبّرَ عنها إعلاميًا. 

فـ”الضعف” الأوروبي هنا، ليس ناجمًا عن اختلال اقتصادي؛ إذ إن الكيانين متقاربان في الحجم، ولا عن “الصورة المتضخمة” التي خلفتها القيادة الأمريكية، منذ حرب الخليج (الثانية) وصولًا إلى الحرب في أوكرانيا؛ وإنما مرده “الضعف السياسي” لأوروبا.

وفي ما يبدو فإن الدائرة الرئيسة التي تلتقي في إطارها الأمثلة الثلاثة السابقة، في الوقت الذي تشير فيه إلى الفجوة التي تتزايد بين معدل الإنتاج المادي ومعدل صنع المعنى؛ فإنها تطرح التساؤل التالي: هل يمكننا على هذا النحو أن نتصور ظهور أو استمرار نظام دولي متصدع بين القوى “السياسية ـ العسكرية” والقوى الاقتصادية، أو: بين صناع المعنى وصناع القوة(؟!).

لعل نقطة الانطلاق في الإجابة على هذا التساؤل تتمثل في أن مسألة فض الارتباط بين المعنى والقوة، وتزايد الفجوة بينهما في المرحلة الراهنة من النظام الدولي، لا تعني أن هذه المرحلة تعبر عن حال من التسيب في النظام، أو أن هذا النظام تحيق به الفوضى المطلقة، أو يكتنفه خطر التحلل من القيود كافة.

صحيح أن كل “نظام” معقد، فيه شيء من الفوضى والتناقض والتضارب؛ بل وكلما زادت حيوية هذا “النظام”، وتسارعت حركيته، كلما زادت عناصر الفوضى الموجودة فيه.. إلا أنه يبقى من الصحيح أيضًا أن ذلك لا يعني، ولا يمكن أن يعني، أن الفوضى على وشك التهامه وتدميره، أو أن “النظام” حينذاك يساوي الفوضى لا أكثر، كما يوحي “التوصيف” إياه.

بعبارة أخرى، رغم أن “اللحظة العالمية” تتضمن الكثير من الفوضى والتناقض والتضارب، أو أن فيها، بالأصح، ميول متنافرة وقوى متصارعة وعمليات استقطاب واسعة، وذلك بالشكل الذي يسمح بالقول: إن النظام الدولي في حالة “سيولة” (ولا نقول: في حال “تسيب”).. إلا أن هذه اللحظة، رغم ذلك، ليست فوضى، وليست محكومة بالفوضى بالتأكيد. 

اللحظة العالمية

يكفى أن نلاحظ، كـ”دلالة” على تأكيدنا هذا، كيف تبنت الدول الصناعية الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، سياسة “مسايرة الشركات الدولية النشاط”، في اتجاه خلق سوق عالمية وإطلاق العملية الاقتصادية الدولية عبر الحدود.

هذا وإن كان يدل على شيء، فإنما يدل على أن “النظام العالمي” يتجه، بصورة مضطردة، إلى الالتزام في مجالات عدة، على نحو ما تشهد به الجهود غير العادية التي يبذلها اللاعبون الدوليون، بشكل غير مسبوق، لانتهاج “نهج جماعي” يتجاوز العلاقات بين الدول إلى حد كبير.

ومن ثم، علينا أن نسلم بأن كل ما نلاحظه في عصرنا الحالي، من حقائق حائرة، أو تطورات متضاربة، أو ترتيبات متشابكة، لا يمثل حقيقة عابرة سوف ينتهي بها الأمر إلى الاستقرار أو الوضوح؛ حيث إن “معنى العالم” في الوقت الراهن، يتسم بخاصية مميزة، وهي: أنه بقدر ما يتضمن من أبعاد حركية، بقدر ما يبتعد عن الثبات أو الجمود.

وماذا بعد(؟!)..

وبعد.. فإن الثورة العلمية والتقنية، بما تشتمل عليه من جوانب في: الاتصالات والمعلومات والمرئيات، وتأثيراتها التي طالت كيفية المعرفة ذاتها، سواء عن طريق: “التغير” في جدول الأعمال التاريخي، و/أو: “التغير” في إدراك العالم والوعي به.. (هذه الثورة)، وإن كانت تؤكد على أن “الجديد” الذي نعاصره، إنما يتمثل في الكيفية التي تتم بها، ومن خلالها، “المعرفة” ذاتها.. فهي (الثورة)، تؤشر، في الوقت نفسه، إلى “المناخ العالمي الجديد”، الناتج عن هذه الثورة، والذي نعاصر ملامحه الآن.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock