مشهد قلما يتكرر.. في ساح الوغي، شيخ سبعيني يقود جيشا قوامه عشرة آلاف مقاتل لا أكثر، يواجهون قوة حربية هائلة يتجاوز عددها عشرة أمثال جيش الشيخ.. في سهل بلاطة في جزيرة صقلية في أوائل شهر رمضان من العام 212هـ. هناك حيث وصل الشيخ القائد بجيشه بعد عدة معارك حامية استولى خلالها على عدد من مدن الأعداء وقلاعهم، على مدى شهور من الجهاد أضنت الشباب والرجال؛ لكن أسدا لم تفتر له همة، ولم تلن له قناة.. وها هو ذا يقف خطيبا في الجند، يذكرهم الجنة ووعد الله بالنصر إن هم ثبتوا وصبروا.. ثم يقرأ أسد بن الفرات آيات الله بصوت عذب على أسماع جنوده، وينطلق حاملا الراية مندفعا صوب صفوف الجيش الصقلي، ومن ورائه صناديد الجيش العربي، وقد ألهب الحماس دماءهم؛ فصاروا كطوفان هادر يقتلع كل ما يعترض طريقه.
لم يفتر حماس الشيخ وجنده حتى كان لهم ما أرادوا، هُزم الجيش الجرار، بعد أن سقط معظم جنوده بين قتيل وجريح، أما قائده بلاتريوس؛ فقد فرَّ من أرض المعركة، وانسحب إلى مدينة قَصْريَانِه، ومنها إلى إيطاليا، ليلقى حتفه هناك على يد حلفائه بعد أن اتهموه بالجبن والخيانة.
واصل القائد المظفر تقدمه حتى وصل إلى مدينة سرقوسة ومدينة بَلَرْم (باليرمو)؛ فحاصرها حصارا شديدا، في انتظار المدد الآتي من إفريقية (تونس)، ونهضت بيزنطة تستنقذ ما استطاعت من فم الأسد، وأرسلت أسطولا لنجدة المدينة المحاصرة، لكن جيش المسلمين كان لهم بالمرصاد؛ فأحرق الأسطول عن آخره.
وعندما كانت المدينة المنيعة تتهيأ للسقوط في قبضة ابن الفرات؛ اجتاحت جيش المسلمين جائحة قيل أنها الكوليرا، تسببت في وفاة عدد كبير من الجند، وكان أسد بين جنوده صابرا محتسبا يبذل جهده في تقديم الرعاية الصحية للمرضى، والحفاظ على الروح المعنوية للجند في هذا الظرف بالغ الخطورة؛ لكن القدر كان أسرع إليه فسقط صريع المرض ووافاه الأجل هناك، ودفن في مدينة قصريانه.. وكان ذلك قبيل قدوم شهر رمضان من عام 213هـ. لتنتهي حياة حافلة تليق ببطل مغوار وشيخ مجاهد وعالم مجدد قلما عرف تاريخ الإسلام رجلا مثله.. تلك كانت النهاية، فماذا عن البدايات؟
في حرّان شمال بلاد الشام ولد أسد عام 142هـ؛ لأب قائد مجاهد هو الفرات بن سنان الذي ما لبث أن خرج لنشر الإسلام في بلاد المغرب العربي مصطحبا معه ولده.. ثم كان مقامهما بالقيروان، حيث حفظ أسد كتاب الله مبكرا، ثم جدّ في طلب العلم؛ حتى صار معلما لكتاب الله وهو في سن الثانية عشرة.
برع ابن الفرات في الفقه؛ ودرس المذهب الحنفي وتعبّد به لفترة ليست بالقصيرة إلى أن التقى عليًا بن زياد وهو أول من أدخل المذهب المالكي لبلاد المغرب؛ فسمع منه أسد كتاب الموطأ وتلقَّى منه أصول مذهب مالك.. بعدها قرَّر أسد أن ينتقل إلى المشرق في رحلة علمية طويلة.
دخل أسد بن الفرات المدينة النبوية لسماع الموطأ من الإمام مالك مباشرة، ثم ارتحل إلى العراق بعدما أنجز ما جاء من أجله.
في العراق التقى ابن الفرات بعدد من تلاميذ أبي حنيفة، ودرس المذهب مجددا على يد القاضي أبي يوسف، وجلس إلى محمد بن الحسن وأفاد منه كثيرا، فكتب عن الكثير من مسائل المذهب.
استمرَّ أسد في رحلته إلى العراق جامعًا بين طلب الحديث والفقه حتى عام 179هـ، وهي السنة التي توفي فيها الإمام مالك، فارتجَّت العراق لموته، وأقبل الناس من كل مكان للسماع من تلاميذ مالك، وقد ندم ابن الفرات على تركه مالكا، وقال لنفسه: إن كان فاتني لزوم مالك فلا يفوتني لزوم أصحابه.
من أجل ذلك قصد أسد مصر، طلبا لصحبة أصحاب مالك ومنهم ابن وهب وابن القاسم، “فدخل على ابن وهب أولا وعرض عليه كتبه التي كتبها على مذهب أبي حنيفة، وطلب منه أن يُجيب عليها على مذهب مالك، فتورَّع ابن وهب عن ذلك، فدخل أسد على ابن القاسم فأجابه على هذه المسائل، وتفرَّغ له ابن القاسم ولقَّنه المذهب كلَّه بأصوله وفروعه، ودوَّن هذه المسائل كلها في الكتاب الشهير باسم “الأسدية” وحرَّرها وضبطها، حتى صارت المرجع الأول للفقه المالكي ببلاد المغرب وقتها، وأخيرًا عاد أسد بن الفرات إلى القيروان سنة181هـ”.
وكان مقام الفرات بمسجد عقبة يعلم الناس ويحارب البدع وأهلها، داعيا إلى صحيح المعتقد، ومع كثرة مشاغله في الدرس والتأليف لم ينس ابن الفرات أمر الجهاد في سبيل الله؛ فقد شارك في العديد من المعارك البحرية في البحر المتوسط، وشارك في فتح جزيرة بالمتوسط تسمى “قوصرة”.
ثم كان أن استغل البيزنطيون، ذلك الصراع الذي نشب بشمال إفريقيا بين العرب والبربر؛ فأغاروا على شواطئ بلاد المسلمين، وكان حكم إفريقية آنذاك لدولة الأغالبة، زمن زيادة الله ابن الأغلب الذي دعا لتوحيد كلمة المسلمين تحت راية الجهاد، والبدء في فتح جزر المتوسط مستهلا العمل بأكبر الجزر مساحة، وهي صقلية.
ولم يجد ابن الأغلب خير من الإمام المجاهد العالم الفقيه ابن الفرات؛ ليقود الحملة العسكرية على صقلية؛ برغم تقدمه في السن- إذ كان ابن الفرات قد ناهز السبعين من عمره- إلا أن شوقه للجهاد ورغبته الصادقة في أن يلقى الله شهيدا؛ تغلبت على ضعف البدن ووهن العظم، فخرج رحمه الله من القيروان على رأس الحملة العسكرية التي كان قوامها عشرة آلاف من المجاهدين المشاة، وسبعمائة فارس بخيولهم في أكثر من مائة سفينة كبيرة وصغيرة، خرجت من ميناء سوسة على البحر المتوسط وسط جمع عظيم من أهل البلد، خرجوا لتوديع الأبطال في مشهد مهيب.
ثم كان ما كان من أمر الشيخ المجاهد وما حققه من انتصارات عظيمة.. إلى أن لقي ربه شهيد في حصار باليرمو، كما كان يطلب.. رحم الله الشيخ المجاهد العالم الفقيه أسد بن الفرات، وأنعم على أمتنا بأمثاله من الرجال الأفذاذ.