لعل الأحداث التي مرت بها -وماتزال- منطقة القرن الأفريقي، تؤشر ـ في تفاعلاتها وتداعياتها ـ إلى استمرار سلسلة الخلافات الداخلية والانشقاقات، التي تعاني منها دول المنطقة؛ وهو ما جعل من الصراع داخليًا، والتنافس إقليميًا، والتدافع دوليًا، عوامل رئيسة في شبكة العلاقات التي تحكم هذه الدول. يكفي أن نتأمل كيف أن المنطقة شهدت -في الآونة الأخيرة- العديد من التطورات التي تمس علاقات الجوار الجغرافي، والحدود والموانئ، وخطوط إمدادات النفط، والأمن المائي.. بما يؤكد على الأهمية “الجغراستية” (الجغراستراتيجية)، للمنطقة، تلك التي تتجاوز، بكثير، الأهمية “الجغراسية” (الجغراسياسية) لها.
ونعني بـ”الأهمية الجغراستية” (الجيواستراتيجية، حسب الاصطلاح الشائع) هنا تلك الميزة أو الخاصية التي تتميز بها دولة ما، أو إقليم معين، أو منطقة جغرافية، بالمقارنة مع غيرها، بما يُفسر مدى الحاجة الدولية لهذه الميزة، التي تتخطى البُعد الداخلي إلى التنافس الإقليمي، ومنه إلى الامتداد العالمي، الذي يؤثر على التوازن الدولي ككل.
الأهمية الجغراستية
في هذا الإطار، يتمدد مفهوم “الأهمية الجغراستية” لمنطقة القرن الأفريقي، ليتجاوز: البعد الجغرافي للمنطقة (الذي يضم: الصومال، جيبوتي، إريتريا، إثيوبيا)، إلى الجوار الجغرافي لها (الذي يشمل: جنوب السودان، السودان، كينيا، أوغندا، تنزانيا)، ليصل إلى الإطار “الجغراسي” لهذه المنطقة من العالم (الذي يتضمن: اليمن، والسعودية، ومنطقة الخليج العربي كاملة، إضافة إلى مصر)، ومنه إلى الأطراف الإقليمية (إيران، تركيا)، ثم القوى الدولية الكبرى.
مثل هذا المفهوم، مفهوم “الأهمية الجغراستية” لمنطقة القرن الأفريقي، يتبدى بوضوح إذا لاحظنا أن هذه المنطقة تطل ـ جغرافيًا ـ على المحيط الهندي، من جهة؛ ومن جهة أخرى، على بحر العرب وخليج عدن ومضيق باب المندب، حيث المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، ومنه إلى قناة السويس، ثم إلى البحر المتوسط.
بهذا المعنى، تتحكم منطقة القرن الأفريقي في واحدة من أهم طرق التجارة العالمية، وفي مقدمتها تجارة النفط، القادمة من منطقة الخليج، والمتجهة إلى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية وكندا (يكفي أن نشير إلى أن مضيق باب المندب، تعبره سنويًا حوالي 30 ألف ناقلة، تحمل حوالي 3.8 مليون برميل من النفط يوميًا).. هذا، فضلًا عن أن هذا الطريق يُمثل واحدًا من أهم الممرات لأي تحركات عسكرية قادمة من أوروبا أو الولايات المتحدة في اتجاه منطقة الخليج العربي.
ومن ثم، فـ”السيطرة” على القرن الأفريقي تعني التحكم في ممرات مائية حيوية، حيث مركز عبور السفن والطائرات من الغرب إلى الشرق، ومن الشمال إلى الجنوب، وبالعكس؛ ناهيك عن أن المنطقة تمثل نقطة رئيسة في التزود بالوقود.
وبهذا المعنى أيضا لا تقتصر أهمية المنطقة على اعتبارات الموقع فقط، ولكن تتعداها إلى تمركزها في قلب الدائرة الواسعة التي يُمكن أن نُطلق عليها “قوس الأزمات في القرن الواحد والعشرين”؛ وهو التمركز الذي تتلاقى عنده دوائر ثلاث: منطقة الخليج العربي، ومنطقة حوض نهر النيل، إضافة إلى العمق الأفريقي.
من هنا فإن الدلالة الاستراتيجية لـ”مصطلح” القرن الأفريقي تتعدى ليس فقط الدلالة الجغرافية؛ ولكن أيضا الدلالة الجغراسية له.
وفي ما يبدو فإن المدخل الملائم للتعامل مع الأهمية الجغراستية لمنطقة القرن الأفريقي، وتمركزها عند نقطة التقاطع بالنسبة إلى الاستراتيجيات الدولية والإقليمية، هو الاقتراب من العوامل الفاعلة في هذه المنطقة، وفي أهميتها الجغراستية.
التنازع الداخلي
لعل المتابع المهتم بمنطقة القرن الأفريقي، لابد أن يلحظ مدى ما تعج به من صراعات ضمن دولها، وفي ما بين هذه الدول وبعضها البعض؛ وهي الصراعات التي ترتبط بقضايا ترسيم الحدود، والموارد، والديمُقراطية، وبناء الدولة. بل، لابد أن يلحظ مدى الارتباط الوثيق بين الصراعات في داخل دول المنطقة، والصراعات في ما بينها؛ وهو ما ساهم في الطبيعة بالغة التعقيد التي اتسمت بها صراعات المنطقة.
يبدو ذلك بوضوح عبر التعدد في مستويات تلك الصراعات وأشكالها وأبعادها أيضا؛ فما بين الحروب النظامية واسعة النطاق والحروب الأهلية والانقلابات العسكرية؛ وما بين تناحر القوميات والقبليات والعرقيات المختلفة، خاصة في إثيوبيا وكينيا والصومال؛ وما بين الخلافات الحدودية، بما تمثله من اختلافات دينية واقتصادية.. أصبح “التنازع الداخلي” واحدا من العوامل الفاعلة في جغراستية القرن الأفريقي؛ بل وفي تحول المنطقة إلى واحدة من أكثر المناطق توترًا في العالم؛ ومن ثم في تزايد أهمية المنطقة على المستويين الإقليمي والدولي.
إذ، لنا أن نلاحظ كيف ساهم هذا التنازع الداخلي، خلال العقدين الماضيين، في انهيار دول رئيسة في المنطقة (الصومال)، وفي تقسيم أخرى (السودان، إثيوبيا)، وفي تشكيل دول جديدة: سواء تلك التي تم الاعتراف بها (إريتريا، جنوب السودان)، أو التي لم يتم الاعتراف بها (أرض الصومال).
لنا أن نلاحظ، أيضًا، كيف أدى هذا التنازع الداخلي إلى اكتساب المنطقة أهمية مُضافة، خاصة مع بروز المنظمات والحركات الإسلامية، المتطرفة والمُسلحة، في عدد من دولها (السودان، الصومال، إقليم “أوجادين” الصومالي المُحتل من قِبل إثيوبيا). فقد ازداد الاهتمام بالمنطقة، بعد إعلان عدد من هذه الحركات وتلك المنظمات عن علاقاتها ببعض القوى الإسلامية الخارجية. والأمثلة، هنا، كثيرة.. منها: علاقة الاتحاد الإسلامي الصومالي بتنظيم القاعدة، وتورط الأخير في تفجير سفارتي واشنطن في كينيا وتنزانيا (عام 1998).. ومنها: حركة “الشباب” الصومالية، التي تمدد نشاطها من الصومال إلى كينيا، فكانت المذبحة التي نفذتها في جامعة “غاريسا” (مطلع أبريل 2015؛ إضافة إلى استمرار تحديها للسلطة المركزية في مقديشيو، إلى الآن).
لنا أن نلاحظ، كذلك، كيف دفع هذا التنازع الداخلي بالمنطقة إلى أن تُصبح إحدى بؤر الاهتمام العالمي، خاصة مع التحرك العسكري لميليشيات “الحوثيين”، المدعومة من إيران، وسيطرتها على العاصمة اليمنية صنعاء، وما تبع ذلك من انطلاق “عاصفة الحزم” (26 مارس 2015)؛ وهي العملية العسكرية التي لابد وأن تخلق معادلة جديدة، ليس في الداخل اليمني وحسب؛ ولكن في منطقة القرن الأفريقي أيضًا. يكفي أن نتذكر هنا، تصريح ضياء الدين سعيد، سفير جيبوتي لدى الرياض، ودلالته، حينما قال: “نحن لا يفصلنا عن اليمن سوى 22 كلم، هي مسافة فوهة مضيق باب المندب الاستراتيجي”.
في هذا السياق، تتزايد الأهمية الجغراستية للقرن الأفريقي، وتتبدى فاعلية التنازع الداخلي كـ”عامل مؤثر”: ليس، فقط، في التدافع الدولي على هذه المنطقة؛ ولكن، أيضًا، في التنافس الإقليمي حولها، بخصوص تفاعلاتها ومواردها.