تفردت نظرية الجاحظ في المعرفة عن سائر ما جاء به المتكلمون والفلاسفة ممن سبقه، فكان له السبق في وضع أسس علم البيان العربي، وكانت له ملاحظاته الطريفة، فيما يتعلق بعلم نفس الحيوان، وتأثير البيئة والتطور ونظريته المعروفة في الإمامة- إلا إنه لم يصنف فيلسوفا، رغم كثرة بواعث ذلك في نظر البعض!
إن الباحث المدقق فيما تركه أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب بن فزارة الليثي الكناني البصري الملقب بالجاحظ- سيجد أن القليل جدا من مؤلفاته هو ما نجا من الضياع أو النقص أو الانتحال، وفي هذا القليل سيلحظ ما انطوت عليه آثار الرجل من قيمة فكرية تتسم بالأصالة والشمول والتميز، وإن كانت لغته الأدبية – حسب ما رأى البعض- قد طغت بشدة على الجوانب الاخرى، وحدّت كثيرا من التوهج الفكري للجاحظ.
ويرى الدكتور علي أبو ملحم أن الجاحظ كانت له مناحيه الفلسفية الواضحة ويقصد بها “تلك الاتجاهات الفكرية التي تنطلق من ميدان الفلسفة لا من ميدان الأدب؛ ذلك أن الجاحظ لم يكن أدبيا فقط، وإنما كان مفكرا أيضا، اشرأب بنظره إلى ما بعد آفاق الأدب، فأطل على ميادين الفلسفة المختلفة من طبيعيات وإلهيات وجماليات وأخلاقيات واجتماعيات، وراح يراقب ما يعترك في ساحتها من مذاهب، وما يحتدم عندها من جدل، ودفعه فضوله إلى إبداء آرائه حول المسائل الفلسفية الأساسية، وقد نثر تلك الآراء في تضاعيف كتبه، ولم يقدم على جمعها في صيغة المذهب الفلسفي المنتظم على نحو ما نعهد عند كبار الفلسفة”.
ويبدو أن الذين غضّوا الطرف عن الإسهام الفلسفي للجاحظ، قد وقفوا عند التعريف القديم للفلسفة كونها “نظاما فكريا متماسكا محكم البناء والتصميم، أو أنها مجموعة الدراسات التي ترجع جميع المعارف البشرية، إلى عدد محدود من المبادئ الأساسية، وتسعى إلى تكوين نظرة شاملة عن العالم” فاخرجوا الجاحظ من دائرة التفلسف وفق هذا التصنيف.
لم ينظم الجاحظ رؤاه في نسق واحد، ولم يجمل أفكاره في مذهب؛ لكن آثاره الباقية في أكثر من فن، إذا صُنّفت وفق المفهوم الأوسع والأشمل للفلسفة في العصور الحديثة، والتي اعتمدت اتجاهين أساسيين، أولهما ما سُمّي بالفلسفة النقدية وينصب على موضوع المعرفة لاكتشاف أسسها وماهيتها وطرقها، والثاني هو ما اشتمل على الدراسات ذات الأحكام القيمية في الأخلاق والجماليات، وهو ما سمي بفلسفة القيم – تصبح آثار الجاحظ ليست ببعيدة عن المعنى الذي اتخذته الفلسفة؛ بل إن هذا المعنى يتطابق مع ما آثاره في مجال الأخلاق، ومجال علم الجمال الذي توسع الجاحظ في التأليف فيه؛ فتناول مفهوم الجمال ومظاهره في اللغة والخطابة والشعر وغيرها.
ودائما ما نرى إلماحا إلى أن لغة الجاحظ الأدبية هي التي أخرجته من زمرة الفلاسفة ومفكري عصره، وحبسته في ثلة الأدباء، وحتى وإن سلمنا بذلك وبعدم انضباط المصطلح الفلسفي لدى الجاحظ ، فإن ذلك لا يعني أن الجاحظ لم تكن له مناحيه الفلسفية التي لا تخطئها عين، وسواء اتفقنا أو اختلفنا حول الجاحظ هل كان أديبا أم فيلسوفا، أم جمع بين الأمرين، إلا أننا سنصل في النهاية إلى أن الرجل قد امتلك منهجا فكريا؛ يقوم على أسس واضحة وخصائص لا تخفى على محقق، وهي النقدية والجدلية والاستقرائية والشكية والاستطرادية والواقعية والعقلانية، فلقد اهتم الجاحظ اهتماما كبيرا بنقد المذاهب الفكرية الأخرى، ربما بأكثر ما اهتم بعرض فلسفته الطبيعية والكلامية والجمالية والخلقية، كما أن الإنصاف يقتضي القول بأن نقد الجاحظ للفرق الأخرى لم يكن تعصبا أعمى لمذهبه الاعتزالي، فهو أبعد ما يكون عن ذلك إذ انتقد شيوخ المعتزلة وخالفهم في آراء كثيرة، كما أن نقده كان موضوعيا لا يتجنى فيه على أحد، ولا يتهم فيه احدا بما ليس فيه، فكان يهتم بشرح آراء غيره وتبيانها، ثم يعمد إلى إظهار ما فيها من تهافت وخطأ بروح ساخرة ضاحكة سمحة رائدها التقويم ودافعها الإصلاح.
أما الجدلية فقد فهمها الجاحظ بمعنى المناظرة أو النقاش الذي يدور بين شخصين يمثلان أفكارا متناقضة؛ لذلك بنى جدله على مبدأ التناقض، واعتمده كوسيلة لكشف الحقيقة عن طريق احتكاك الآراء الذي يولد نور اليقين.
ولقد كان تفكير الجاحظ استقرائيا بشكل إجمالي؛ فإذا عرضت له مسألة من المسائل راح يتأملها ويلاحظ ما يتصل بها وما يصدر عنها وما يحيط بها، ويجمع الملاحظات عن طريق التجربة والسماع والعيان ثم يستنبط أحكامه.
وعندما ننظر إلى شكية منهج الجاحظ نجدها تختلف عن الشكية في مفهومها الفلسفي العام المعروف، فهو يعتقد بإمكانية المعرفة، كما يعتقد بوجود الحقيقة، وهو القائل: إن عقل الإنسان قادر على المعرفة، وفهم الأشياء وإدراك العالم الذي يحيط به.
وهي ليست شكية مطلقة بحسب نظريته في المعرفة ، لكنها مقيدة بأصول وقوانين معينة، غير أن الشك الذي لازم الجاحظ دفعه إلى عدم التسليم بالأخبار والآراء التي يسمعها أو يقرأها والظواهر التي يراها إلا بعد الفحص الدقيق والملاحظة الشديدة؛ لذلك فإن القول بأن الشك عند الجاحظ هو طريق للوصول إلى حقائق الأمور، وليس هدفا بذاته- هو قول صحيح؛ خاصة وأننا نرى في غير موضع مما ترك من مؤلفات، نَهْيًا صريحًا عن الإسراف في الشك واتخاذه غاية، وتحذيره من ذلك كونه خطرا يؤدي إلى الهلاك.
وربما كان من اللطيف أن نتناول ختاما خصيصة الشمولية في منهج الجاحظ العلمي، والتي تعني عنده الثقافة الواسعة، إذا كان بحق- كما قيل- دائرة معارف، إذ ألم بكافة فروع المعرفة، وكتب في جميع الموضوعات، وقد عابوا عليه أنه لم يتعمق الموضوعات التي بحثها وأنه ذهب عمقا فيها بأقل مما ذهب عرضا، فبدت بعض كتاباته سطحية بلا تنسيق أو تبويب، حتى قيل عنه أنه كان خزانا ممتلئا بالمعارف فتحت فوهته؛ فراح يتدفق ما فيه ليملأ صفحات الكتب، وربما كان ذلك علة الأمر في أنه على ذيوع صيته، قد حُدَّ بالأديب ولم يذكر ولو لمرة واحدة في زمرة الفلاسفة.