في المقال السابق بينّا كيف ربط المفكر والأديب مصطفى صادق الرافعي بين السعادة والحرية، وأن الإنسان العاقل سعادته إرادية، ومن ثم فهو قادر على تحرير نفسه من أية قيود تحجبه عن الحياة الفاعلة، مثلما لديه القدرة على تحقيق معنى السعادة الذي يصبو إليه. وفي هذا المقال سنوضح كيف تقود الحرية إلى الإيمان؟ وكيف يقود الإيمان إلى السعادة من وجهة نظر الرافعي؟
في كتابه (المساكين) يشبه الرافعي الجسد بالجواد الذي من الطبيعي أن يربط في الإصطبل، بينما الفارس لا يصح أن يُعامَل معاملة الفرَس أو أن يتغذى من نفس غذائه، فما يصلح للجسد لن تستجيب إليه الروح. فإذا لم يعتنى بالفارس فلن يقوى على اعتلاء ظهر الفرَس، وإذا حُرِم من مقومات حياته المناسبة له والمختلفة عن حاجات فرَسه؛ فحتمًا سيعتريه الخوف وسيصيبه الألم. وهكذا النفس إذا عرفت روحها الخوف من الحياة؛ فلن يهنأ الإنسان بل سيحيا في خوف لاينقطع، من الموت يمليه عليه جسده المادي؛ ومن ثم ستكون حياته وكأنها موت مستمر.. في ظل تلك المعاناة التي تتجرعها روحه.
وهكذا يؤكد الرافعي مرة أخرى، أن سعادة النفس الإنسانية تكمن في تحررها من أغلال الأهواء وقيود الشهوات؛ فتكون لديها القدرة على عدم الخضوع لزينة الحياة الدنيا، ومن ثم تنجو من فتنها وحبائلها.. فكل لذة مادية يشتهيها الجسد ويذوقها لن يطلب سوى المزيد منها، وما دام لم يقنع بالقليل فسيتملكه النزوع إلى الحرص، والحرص جُبن في الأخلاق، والجبن يقود إلى المذلة والهوان، وذاك هو عين الاستعباد، بينما الإنسان خُلِق حرًّا مثلما خُلِق ضيفًا على الدنيا. كلما كان متاعه فيها قليلًا كلما خفَّت حركته، ولم يصعب عليه الرحيل، أو يشق عليه الصبر في الضراء أو مع كل نازلة أو فقد.
ومثلما يرى الرافعي أن السعادة تكمن في الحرية؛ فهو يرى أيضًا أن الأخلاق والفضيلة لا يمكن أن تفارق النفس الحرة؛ فالحكيم لا يغضب، والشجاع لا يعرف الخوف أو الجبن والمذلة، والكريم لا يبخل، والحر لا ينافق أو يكذب، والشريف لا يسرق، وكل ذلك هو مجرد مظاهر محدودة لحرية النفس، فما بالنا إذا كانت حرة من كل أقطارها؟!
لذلك ليس هناك من هو أكثر حرية، من القانع قناعة اختيار، وليست قناعة اضطرار، وهي ببساطة الرضا بما تملكه اليد، واليأس مما لا تملكه، حتى لو ملكه كل الناس. فهل ذلك الذي لم ينجح في تحرير نفسه من قيود دونيتها التي تهبط بها إلى أسفل سافلين – من الممكن أن ينجح في تحرير غيره أو تحرير وطنه؟!
إن البداية تتمثل في فهم طبيعة احتياجات النفس البشرية بكل مكوناتها، وفي إعطاء الجسد ما يعينه على البقاء دون إسراف مع الاستعداد لتحمل ما قد يصيبه من ألم. فالجوع مثلًا يُشعر الإنسان بالألم ولكنه يزول مع تناول الطعام، بينما الإفراط في الاستجابة لتلك اللذة وتخطي درجة الشبع سيصيب الجسد بالعلل والأسقام، ما يُحدِث ألمًا من نوع آخر.
ولا شك أن تعلق المرء بما يظن أن فيه سعادته أو شقاءه، هو الذي يجلب إليه التعاسة والشقاء، فكلما أحب الإنسان شيئًا وتعلق به؛ فسيخشى من فقدانه؛ ولذلك يخاف كل طامع في الدنيا منها، مثلما يخاف عليها، ويظل يشقى من أجلها ويشقى بسببها. وهؤلاء يعظم لديهم الشعور بالفقد والخسارة وتزلزلهم حوادث الدهر وخطوب الزمان. بينما في الحقيقة ليست التعاسة أو السعادة، كما يتوهم هؤلاء، بل إن تعلقهم بالدنيا دون سواها ونظرتهم المُعظِّمة لها تجعلهم أقل سعادة وأكثر شقاءً، ليس فقط وهم أحياء بل أيضًا وهم أموات؛ ذلك أن الطمع والخوف كفيلان بحجب أية سعادة؛ إذ يحولان بمنتهى المكر دون السكينة وراحة البال.
ولذلك يرى الرافعي أن التخلص من التعاسة والتغلب على المصائب يكون عن طريق العزيمة والجرأة والشجاعة وقوة الإرادة، ومن خلال الثبات والصبر، بالإضافة إلى التوكل والإيمان. والإيمان تحديدًا هو ما يساعد الإنسان على الاستعداد للرحيل وإعداد العُدة له؛ ومن ثم التخفف من الأثقال، والتخلص من الأوهام، والالتفات إلى مزيد من الفهم والوعي والتعلم من دروس الحياة، من أجل التمكن من مواجهتها والتغلب على محنها.
وأخيرًا يصل بنا الرافعي إلى أن الإيمان هو سر السعادة المتجددة والتي ترتقي بالنفس البشرية ولا تهبط بها. فما دامت الحياة بالنسبة للمؤمن ليست هي الانتهاء إلى الموت على أي وجه، وليست هي بالهرب من الموت في كل وجه، فلن يعبأ بها الإنسان أو يرجوها بمنتهى الطمع والخوف؛ ومن ثم لن يبالي بالموت أو يهابه.
آنذاك لن يسير الإنسان في الحياة سوى على صراطٍ من الفضائل والأخلاق، وعلى نور من خالقه؛ ما يجعله مطمئنًّا وأكثر هدوءًا وسكينة.. وهل السعادة شيء آخر غير الاطمئنان والسلام النفسي؟! أم هل يمكن للابتسامة الوضاءة أن ترتسم على الأوجه؛ فتزيدها إشراقًا دون أن تنبع من تلك الطاقة الروحية التي تملأ النفس وتغذيها باستمرار؟!
إن الرافعي يرى المؤمن قادرًا على التعامل مع الهموم ومسببات التعاسة سواء بصرفها إلى جهة أخرى غير جهتها، أم باستخراج معنًى منها غير معناها؛ إذ بإمكانه أن يقابل شقاء السخط براحة الرضا إذا ما قارن بين ما أصابه من شر وسوء، وما كان من الممكن أن ينزل به من شر أشد وسوء أعظم.
والمؤمن وحده بإمكانه مواجهة كل هم وكرب وفاجعة ونازلة عن طريق الاستعانة بالدعاء والتقرب لخالقه بأن يصرف عنه ما وقع به من شر وسوء فينال الراحة والسكينة لأنه في معية من يدبر الأمر وبيده المُلك وإليه يُرجَع الأمر كله؛ ولذلك يزيده الحمد في السراء والضراء شجاعة وقوة وامتنانًا لخالقه؛ فيرضى ويهدأ إلى أن ما يصيبه إن كان خيرًا أم شرًّا سيكون سببًا في تقوية ما بينه وبين ربه.
أما غير المؤمن فهو من أشقى الناس لأنه يتوقع الشقاء، فلا يعلم من حاضره ما الله صانع به، ولا يعلم من مستقبله ما الله قاضٍ فيه؛ وذلك لأنه قد وكَّل أمره لنفسه، فيأس من رحمة خالقه وقدرته؛ فإذا بأية مصيبة تغدو في نظره أكبر من كل شيء، وكأنها كل شيء. وما أن يتملكه الخوف والعجز واليأس والوهم، حتى تهون عليه الحياة فلا يفكر سوى في الموت.
وهكذا يتضح أن السعادة في الدنيا عند الرافعي، ليست مجرد هبة أو منحة أو مكافأة؛ ولكنها تتطلب بذل الجهد والعمل والسعي، من أجل أن ينال الإنسان حريته، ومن أجل التمسك بإيمانه بخالقه. وبالتالي فإن سعادة المؤمن في حياته تبدو وكأنها جهاد متواصل ثمرته قد لا تكون ظاهرة للعيان لأنها لا تخضع لمقاييس من يريدون الدنيا وزينتها دون سواها؛ بل إن صاحبها قادر على أن يتلمسها في نفسه فإذا بها تسكن وتطمئن فلا تفزع أو تجبن. وربما لا تنال تلك النفس راحتها من ذلك السعي المتجدد وهذا الجهاد الدءوب إلَّا بتوقفها عنه في حالة الموت وفقدان الحياة.
لذلك فإن سعادة المؤمن الحر لا تقترن بالراحة والرفاهية؛ مثلما يظن أولئك الذين ينشدون رغد العيش وترف الحياة؛ بل إنها لا تنفصل عن الجد والمثابرة والجهاد والتضحية والبذل.
أما الغافلون الذين تلهيهم شتى أنواع الملذات والمفاتن ولا تسعدهم سوى التوافه مهما حقرت، فإذا بهم يغترفون منها اغترافًا وينهلون منها إلى حد الثمالة – فهم أشد الناس تعاسة وأكثرهم فزعًا في الملمات والخطوب. وهؤلاء ممن يكثر ضحكهم -لكثرة لهوهم ولعبهم- لا يعرفون سبيلًا للطمأنينة ولا يصلون إلى السلام النفسي النابع من راحة البال؛ لأنه لا ينعم به سوى من تيقنوا من مدى جدوى كل ما بذلوه من عمل وسعي، فلا يصيبهم شك ولا يعتريهم خوف.
وأخيرًا هل سعادة كل سعيد بحياته الدنيا وزينتها مهما عظمت – تضاهي سعادة من اطمأنت نفسه بارتقائها عن الدنايا والسفاسف؛ فسكنت روحه في نعيم القرب من بارئه الذي إليه المنتهى، والذي هو أضحك وأبكى، والذي هو أمات وأحيا؟!
وهل أية سعادة مؤقتة وزائلة ومتغيرة ومتبدلة يكفي أن تكون حاضرة ومعاشة؛ كي تضاهي السعادة الأبدية التي لا يعتريها تغير أو تبدل أو زوال حتى لو كانت مجرد غيب غير مشهود أو معاش؟!
إن السعادة مسألة نسبية تختلف من شخص لآخر؛ ولكنها في النهاية اختيار وقرار. وقد يكون هذا الاختيار عشوائيًّا، وقد يكون ذلك القرار غير ناضج بما فيه الكفاية، وفي النهاية ستقع عاقبة كل اختيار وكل قرار على عاتق صاحبه؛ فإما أن تقوده خياراته إلى الحرية بكل مشقاتها أو إلى مزيد من الاستعباد بكل عواقبه. ومثلما هناك من يسعدون برغم الخنوع والمذلة، فهناك أيضًا من يسعدون وهم يضحون بحياتهم في سبيل حريتهم وكرامتهم.