ثقافة

وداعا أنطونيو غالا..  القرطبي المبدع باعث حضارة الأندلس

“إن التأريخ الإسباني مزيف في معظمه، فلم يكن هناك استرداد، لأن هناك مدنًا إسبانية لم تكن موجودة قبل وصول المسلمين، وإن الحروب التي سنها ملوك قشتالة كانت لأطماع شخصية.. لقد مثلت غرناطة قمة التسامح، لذلك كان غزو الملكين الكاثوليكيين لها كان خطأ فادحًا”.

بهذه الكلمات الحادة الواضحة افتتح أنطونيو غالا محاضرته في الأزهر الشريف يوم حلّ ضيفا على المؤسسة العريقة، ضمن فعاليات مؤتمر ناقش العلاقة بين الثقافة العربية الإسلامية والدول الناطقة بالإسبانية.. قبل أكثر من عقدين.

لقد عبّر أنطونيو غالا الذي غادر عالمنا أول من أمس الأحد، عن انحيازه المطلق للحضارة العربية الإسلامية في شبه جزيرة إيبيريا، حتى أن انتسابه إلى قرطبة، كان اختيارا منه، برغم ولادته في سوسيداد عام 1930، في فترة قلقة من تاريخ إسبانيا التي كانت تحت الحكم  العسكري إثر الانقلاب الذي تزعمه الجنرال ميغيل بريمو دي ريفيرا عام 1923،  وقاد على إثره البلاد حتى استقالته مطلع العام الذي شهد ميلاد غالا.

بدأ غالا إبداعه الأدبي مبكرا جدا ربما كما أشاع وهو في الخامسة من عمره، عندما كتب قصة قصيرة، أتبعها بمسرحية وهو بعد في السابعة.. لكن ضغوطا أسرية دفعته لدراسة القانون والعمل محاميا لمدة عام، ترك بعده المجال وعاد إلى مقاعد الدراسة في جامعة مدريد في مجال الآداب والفلسفة، والعلوم السياسية والاقتصادية.

خلال سنوات الدراسة نشر غالا عدة قصائد في كبريات المجلات الشعرية، قبل أن يؤسس وعدد من زملائه، مجلتين أدبيتين هما “الجب” و”قوس الشعر”.

وقبل أن يكمل أنطونيو عقده الثالث صدر له أول ديوان بعنوان “عدو حميم” الذي نال عنه جائزة أدونيس للشعر ولكن ديوانه الثاني “قصائد قرطبية” تأخر كثيرا ليصدر عام 1994، ويلحق به بعد ثلاث سنوات ديوانه الثالث “قصائد حب” عام 1997.

في فترة الانقطاع الشعري تلك انغمس أنطونيوا جالا في عالم المسرح دراسة وإبداعا، فكتب مسرحية “حقول عدن الخضراء” عام 1963، ونال عنها “جائزة كالديرون الوطنية” بعد عشر سنوات أبدع جالا مسرحية “خواتم من أجل سيدة” وفي العام 1980 قدم للمسرح الإسباني رائعته “بيترا ريغالادا”.

“أكتب على الأوراق القرمزية الأخيرة من كل ما كنت أخرجته من أمانة الدولة في الحمراء. ربما كان ذلك دافعا مناسبا كي لا أكتب أكثر. لست واثقا- تماما كما هو الأمر مع كل الأشياء-، لكنني أعتقد أنني أتم اليوم الرابعة والستين من عمري. منذ أن وصلت إلى فاس وحياتي تجري مثل يوم وحيد طويل وممل. ثم إنني لم أعرف قط الساعة التي ولدت فيها بدقة، من هنا لم يستطع الفلكيون أن يحددوا برجي دون خطا. (ربما كان هذا هو المرغوب به بالنسبة إلى ملك) وبالتالي فإن كل ما قيل عن قدري الذي خطته النجوم خيالات. وقد فكرت أحيانا أن هذا هو مصدر كل غلط إن السير على غير هدى لا يقود أبدا إلى نتائج حسنة رغم أن الحياة – من ناحية أخرى- ليست إلا سيرا على غير هدى. الأمور الأكيدة في حياتي- وملم يكن فيها أكثر من اثنين أو ثلاثة- قادتني عامة إلى الاسوأ”.

النص السابق هو جزء من رواية المخطوط القرمزي التي بدأ غالا كتابتها في الثمانينات من القرن الماضي، وبذل فيها جهدا مضنيا بحثا ومراجعة وتدقيقا، قبل أن تخرج للنور عام 1990، وهي بمثابة شهادة لا تقبل الشك على أصالة وتفرد الهوية الأندلسية، والأثر العظيم الذي خلّفه الحضور العربي في شبه الجزيرة الإيبيرية، وتميز تلك الفترة من التاريخ بفرادة الإبداع في كافة المجالات الأدبية. وقد نال العمل “جائزة بلانيتا للرواية”.. بعد ذلك بأربع سنوات نشر غالا رائعتيه “غرناطة بني نصر” و”الوله التركي”. وقد تُرجمت الروايات الثلاث إلى العربية.

يقول أنطونيو غالا في إحدى قصائده:

لسنا وحدنا في هذا العالم..

ولا يمكننا الارتجال في كل شيء..

إذ لا أحد يستطيع أن يتقدّم دون أن يتذكّر..

لا يوجد مستقبلٌ دون ذاكرة..

أحمل اسم الأمويّين في روحي.. وعلى جبهتي اسم بني عبّاد

وفي قلبي محفورٌ اسم غرناطة بني نصر.

لقد كان غالا سباقا إلى الكتابة عن تلك الحقبة الأكثر ثراء من تاريخ إيبيريا، وقد تبعه بعد ذلك كتاب إسبان كثيرون، رأوا في تاريخ قرطبة وغرناطة ما يستحق إماطة اللثام عنه.. فتخافتت أمام الحقائق الدامغة كل دعاوى التشويه والنبذ لتاريخ الوجود العربي في الأندلس، وصارت الدراسات في هذا المجال محل تقدير من مؤسسات الدولة الإسبانية نفسها.

برحيل غالا سقطت أهم أوراق شجرة الأدب الإسبانية في عصرنا.. كما فقدت الثقافة العربية الإسلامية أحد أهم المدافعين عنها في الغرب، إلا أن ما تركه الراحل العظيم من أعمال أدبية متنوعة، لا بد أن يكون محل دارسة وفحص في جامعتنا العربية، تقديرا لجهد غالا، وسيرا على نهجه في رفض الزيف وإعلاء قيمة الحقيقة التاريخية.. ولو كانت ضد إرادة الأغلبية التي تطربها ألحان الزيف وألعاب الاحتيال والتضليل.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock