عبر محاولة البحث عن مفهوم مصطلح “اسم”، ودلالته، في التنزيل الحكيم؛ وصلنا إلى أن ثمة فارقًا مُهمًا يتبدى بوضوح بين التعريف وسمة هذا التعريف، في آيات التنزيل الحكيم؛ إنه الفارق في دلالات ألفاظ القرآن الكريم وعائدها المعرفي، ما بين أسماء العَلَم ومحمولات هذه الأسماء، بحسب اصطلاحات اللسان العربي.
والأمثلة على ذلك كثيرة، فقد ميّز التنزيل الحكيم بين اسم العلم محمد عليه الصلاة والسلام (التعريف)، واسم المحمول أحمد (سمة هذا التعريف)، كما ميّز بين اسم العلم عيسى واسم المحمول المسيح، وجمع ليحيى بين اسمي العلم والمحمول في اسم واحد حين أسماه الله سبحانه وتعالى “يَحْيَى”؛ أي إن الاسم المحمول يتعلق بسمات وخصائص وهوية الحامل له.
فما علاقة ذلك بالآية الكريمة “وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا”(؟).
آدم والأسماء
لعل التأكيد على أن لفظ “اسم”، إنما يأتي في الأصل من “وسم” وليس من “سمو”؛ من حيث إن الألف في “اسم” هي في الأصل حرف “واو”، وتأتي في أول اللفظ وليس في آخره، ومنه تأتي “يُسم” أي يعطيه سمة ما؛ كما أن محاولة التفرقة بين اسم العَلَمْ ومحمول هذا الاسم، من حيث إن الأول هو “التعريف” والثاني هو “سمة هذا التعريف”؛ كليهما ما يُتيح لنا الاقتراب من قوله سبحانه: “وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ٭ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ” [البقرة: 31-32].
وهنا، لنا أن نؤكد على نواحٍ ثلاث..
من ناحية، في قوله سبحانه: “وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ”، فإن ورود لفظ “الْأَسْمَاءَ” في الآية، كمصطلح، يعني أن الذي لم تعرفه الملائكة هو “الْأَسْمَاءَ” المتعلقة بالمعروضات، من حيث إن المطلوب معرفته ليس اسم العلم وإنما اسم المحمول، أي سمات وخصائص هذه المعروضات. ولنا أن نلاحظ، هنا، أن الإشارة في “ثُمَّ عَرَضَهُمْ” تتعلق بشيء موجود وكائن، أي الموجود الحسي والواقعي، وليس الموجود اللغوي أو الذهني، الذي يُقال فيه “عرضها” بما يُشير لذات الأسماء.
فأسماء الأعلام كانت الملائكة تعرفها، وآدم يعرفها، والبشر الذين كانوا يُفسدون في الأرض ويسفكون الدماء يعرفونها. ألم يتساءل الملائكة بمفردات دالة على أسماء علم؟؛ فقد أشاروا إلى مُسمى الأرض، وإلى الدم، وكونه مسفوكًا؛ كما أشاروا إلى الفساد ـ أو الإفساد المطلق الذي يصل إلى حد سفك الدماء ـ من حيث إنه فعل مادي وليس سلوك لا أخلاقي، أي سلوك مخالف لأوامر الله ونواهيه، فهذا يُسمى فسوق وليس فسادًا. فليست الأسماء المقصودة، إذًا، أسماء علم.
من ناحية أخرى، في قوله تعالى: “فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ”، فإن الصدق هنا إشارة إلى ظن الملائكة ـ في ما مضى ـ بأن الله يستخلف من بين بشر يُفسدون في الأرض، بحيث يتضح أن معطيات الأسماء تتعلق بمفارقة السلوك البشري “البهيمي”، الذي تساءلت عنه الملائكة، وإلا لما طُرِحت “الصدقية” في هذا المجال. فالذين عرضوا على الملائكة، كانوا يتصفون بأسماء محمولة تُقرر حالتهم؛ وهي حالة يفترقون بها عن أوضاع أولئك الذين يسفكون الدماء، بمعنى أنه افتراق سمات وخصائص.. وهوية.
أما في قوله سبحانه: “وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا”، فإن “آدَمَ”، إضافة إلى كونه “أبا الإنسانية”، جاء هنا اسم جنس للدلالة على الإنسان الذي اصطفاه الله سبحانه وتعالى من بين “بشر”، ونفخ فيه من روحه فأصبح إنسانًا، وليبدأ معه تاريخ الإنسانية.
ثم، إن “الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا” في الوقت الذي تؤكد فيه أن الأسماء التي تعلمها آدم شاملة، بما يعني “الإحاطة”؛ فإنها، في الوقت نفسه، تُرَد إلى “آدَمَ” بما يُؤشر إلى اختصاصها به. وقد تولى آدم تعريف من عُرِضوا على الملائكة بأسماء محمولاتهم كخطوة رئيسة في مفارقة السلوك البهيمي في الأرض؛ وهو ما يتأكد من قوله سبحانه وتعالى: “قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ” [البقرة: 33].
ويبقى أن نلاحظ أن “هَؤُلَاء” في الآية الكريمة: “فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ” [البقرة: 31]، تأتي للدلالة على أن المعروضات مخلوقات “إنسانية”، عاقلة؛ كما في قوله سبحانه: “قَالَ يَاقَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ” [هود: 78]، وكما في قوله تعالى: “فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا” [النساء: 41]. إذ، إن جمع غير العاقل يُعامل في اللسان العربي معاملة المُفرد، فنقول: هذه أشجار، وتلك طيور.
آدم والتشريع
من ناحية أخيرة، في قوله سبحانه: “وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا” [البقرة: 35]، فإن السياق القرآني يُركز على العلاقة الزوجية بين آدم وزوجه ارتباطًا، وذلك بعد أن تعلم آدم “الأسماء” وأنبأ بها الملائكة. وهنا، تأتي أهمية الدلالة في مسألة الاصطفاء الإلهي لآدم عليه السلام، من حيث إنها ترتبط بالتشريع وحمل الرسالة، كما في قوله سبحانه: “إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ” [آل عمران: 33]. فإذا كان نوح أول من أُوحِي إليه، فقد كان آدم الذي اصطفاه الله من بين البشر، وميزه بالروح، أو تحديدًا بـ”نفخة الروح” (سر الأنسنة)، أول من اضطلع بمسئولية ومهام “الخلافة” في الأرض.
ولأن هذه المسئولية تتطلب تشريعًا إلهيًا، يُفارق بموجبه آدم سلوك من “يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ” [البقرة: 30]، فقد جاء هذا التشريع، كأول تشريع ديني في تاريخ الإنسانية، عبر الأسماء التي تعلمها آدم؛ فما تعلمه هو “الشرعة” النقيضة للسلوكية البشرية الأولى، أي محمولات الأسماء “العائلية”. فـ”الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا” تنحصر في التكوين العائلي ذي العلاقة الجديدة؛ فحواء اسم علم وهي امرأة ومحمولها زوجة، واسم المولود الذكر علم ومحموله ابن، وكذلك اسم المولودة الأنثى علم ومحمولها ابنة. بل، إن آدم نفسه اسم علم، أما محموله فزوج يسكن مع زوجه الجنة، فتحرم على غيره وهو محرم على غيرها.
وهكذا، فإن تلك هي “الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا”، التي خص الله بها آدم، لتكون أول تشريع للإنسانية، ولتكون الأساس في التشريعات الدينية التالية؛ إنها “الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا” بما تتضمنه من علاقات التحريم، التي تمتد إلى محمولات الأسماء التي بيَّنَتها آيات الذكر الحكيم في سورة “النساء” [23-25]، والتي جاء في ختامها قوله سبحانه وتعالى: “يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ” [النساء: 26].
وهنا، يثور التساؤل: إذا كان التمييز بين الخلق البشري والاستخلاف الإنساني، يتأكد عبر الأسماء التي تعلمها آدم عليه السلام، لتكون التشريع الأول للإنسانية.. فما هي، إذًا، دلالة الاصطفاء الإلهي لآدم عليه السلام؟
وللحديث بقية.