في قصيدة أمل دنقل “ضد من” قال أمير شعراء الرفض “وأرى في العيونِ العَميقةِ.. لونَ الحقيقةِ.. لونَ تُرابِ الوطن”.
قفزت تلك الجملة الشعرية إلى رأسي، وأنا أتابع الجدل الدائر حول تصريحات الفنان محمد فؤاد خلال حفله الفني بمدينة جدة بالمملكة العربية السعودية والتي قال فيها: “حلم إن إحنا نغني لأعظم ناس على وجه الأرض.. السعودية اللي ساكنة قلب كل واحد في الوطن العربي، وشعبها الطيب الخلوق اللي علّم الدنيا يعني إيه أخلاق وكرم.. بحبكم من كل قلبي، وممكن بعد الاستقبال دا.. أبطّل غناء دلوقتي”.
ومنذ ان أطلق فؤاد تصريحاته، وخروج أحمد سعد بملابسه المثيرة للجدل، لم تتوقف النقاشات والاجتهادات التي شغلت مساحة كبيرة من الراي العام، لا تقل عن مساحة انشغال الناس بارتفاع الأسعار المتوالي أو بمؤتمر مرتضى منصور أو بطلاق المغنى شاكوش أو حتى الصراع السوداني، والاعتداءات الصهيونية المتواصلة على الشعب الفلسطيني.
تأتى خطورة تصريحات فؤاد، من كونها ليست المرة الأولى التي يختلط فيها المديح الواجب، والشكر المستحق لدولة الاستضافة وشعبها وحكومتها مع حالة الإفراط والمبالغة في التبجيل – إلى حد يصل أحيانا إلى إراقة ماء الوجه وتكلّف قدر كبير من التملق، على حساب مكانة وطنه، وتاريخه الناصع.. ودور مصر المحوري في صناعة ونشر الثقافة والفنون وإشاعة التنوير والقيم المدنية والمفاهيم الحداثية في المنطقة العربية. وهذا بالطبع ليس من دروب الشوفينية؛ لكنه رصد لحقائق تاريخية لا ينكرها أحد، وفى مقدمتهم نخب ومثقفو الوطن العربي من المحيط إلى الخليج.
وما قاله أمل دنقل من أن “لون الحقيقة هو لون تراب الوطن” وأن الحقيقة هي الوطن، يمثل صرخة في وجه كل من يجهلون قيمة الوطن.
هي صرخة أيضا في وجه كل من يتحدث عنه أو باسم شعبه وهو ليس مؤهلا ثقافيا وفكريا لذلك ولا يتمتع بالوعى الضروري.
لم يكن فؤاد هو أول من تورّط في مثل تلك السقطات فقد سبقه الممثل حسن الرداد، حين قال في 2022 “أنه يرغب في الاستقرار في المملكة؛ لتوفر كافة عوامل الطفرة الفنية التي يتمناها أي فنان” وبعد تعرضه لنقد عنيف؛ اضطر الرداد لتوضيح التصريحات معتبرا أنها كانت تحت تأثير عاطفي، خلال تكريم المملكة لاسم الراحلين سمير غانم ودلال عبد العزيز.
وكانت المغنية أصالة قد تعرضت لهجوم حاد عندما نسبت الفضل في نجاحها إلى الجمهور السعودي، متجاهلة أن ما حققته من شهرة، كان في جزء أساسي منه، بسبب دعم ومسانده من الجمهور والفنانين المصريين.
ولم يكن فؤاد الوحيد الذى ساهمت تصريحاته في إشعال غضب شعبي؛ فقد سبقته المطربة شيرين عبد الوهاب بعدد من التصريحات المثيرة للجدل، والتي كان أشهرها تصريح اعتبره الكثيرين مسيئا للشعب المصري، ففي إحدى حفلاتها خارج مصر، طلبت منها سيدة من الجمهور أن تقدم شيرين أغنية “ما شربتش من نيلها” حينما صاحت بصوت عال، وهي تذكر اسم الأغنية، فما كان من شيرين إلا الرد يقولها: “هيجيلك بلهارسيا” وطالبتها شيرين بشرب مياه معدنية فرنسية الصنع بدلا من ماء النيل، حينما قالت لها: “اشربي من ميه إيفيان أحسن” ما أثار موجة غضب ضدها، لم تمنعها من تكرار تصريحاتها المثيرة للغضب.
وفي السنوات القليلة الماضية، ومع بداية النشاط الفني والثقافي المميز والمحمود الذى تشهده المملكة العربية السعودية، والذى يُمثل إضافة إلى الثقافة العربية ويعتمد هذا النشاط بنسبة كبيرة على الفنانين المصريين في مختلف المجالات – بدأت الأصوات المخلصة تنبّه إلى ضرورة الالتفات إلي تراجع الدور المصري في المنطقة، وتأثر “قوة مصر الناعمة” بالأوضاع الصعبة التي يمر بها الوطن، خاصة في الجانب الاقتصادي، وما تشهده الساحة الفنية من تردٍ على مستوى الإنتاج الفني كمًا وكيفًا
كما تأثرت بمناخ التضييق المجتمعي، الذى فرضته قوى ظلامية تمارس الرقابة، وتقمع حرية الإبداع بشكل لم تعرفه مصر سوى في العقود الأخيرة من القرن العشرين.. كل ذلك بالمقارنة بمراحل كانت فيها القاهرة هي هوليوود الشرق والمصدر الأهم للإشعاع الفكري والثقافي والفني.
ومع هذا الانفتاح الخليجي ونمو احتضان دولِه للفاعليات الفنية والثقافية، وفتح عواصم الخليج أبوابها للفن المصري – لأنه الأهم والأكثر انتشارا – وجد عدد كبير من المبعدين المصريين من الفنانين “أصحاب الشعبية” في عواصم الخليج مستقرا جيدا في ظل تراجع الأوضاع في مصر؛ خاصة وأن مئات العازفين والفنيين والموسيقيين يعيشون أوضاعا صعبة منذ سيطرة أجواء “كوفيد 19” وما صاحبها من إجراءات احترازية، ورغم انتهاء خطورة الوباء إلا أن الأزمة لم تنتهِ حتى الآن!
وهذا ليس أساس الأزمة.. فالأزمة – في عمقها- تكمن في تعاطى عدد من الفنانين غير المؤهلين ثقافيا والمفتقدين إلى الكِياسة – بما لا يتناسب مع مساحات الشهرة الممنوحة لهم – وخروج بعضهم بتصريحات تفتقر الي الحساسية وتجرح كبرياء أبناء شعبهم وتنال منه، وهو الذي وإن كان أكبر المتضررين من الأزمة الخانقة؛ إلا أنه ما زال قادرا على الإبداع.. متمسكا بأهداب الأمل.. معبرا عن نفسه من خلال الفنون والآداب.
لقد زلت قدم هؤلاء المتملقين، ولم ينظروا خلفهم.. لم ينظروا للتاريخ ليعلموا أنهم ينتمون إلى بلد أم كلثوم التي كان يستقبلها كبار رجال الدول العربية بأنفسهم بتعظيم يليق بها، خلال جولاتها العربية والأجنبية، دعما للمجهود الحربى عقب نكسة يونيو 1967.
كانت مصر تعاني آثار أكبر نكسة في تاريخها المعاصر.. لكنها ظلت صلبة مرفوعة الرأس.. كما كانت السيدة أم كلثوم تقف في شموخ لا تنحني لمسئول ولا تبالغ في مديح.. فخورة بمصريتها، كما هي مُعتزّة بعروبتها.. لديها شعور طاغ بموهبتها وقيمتها ومكانة بلدها ودوره الفاعل في أمته وتاريخها وحاضرها.
لم يكتمل إدراك هذا الجيل الذى شوهته المرحلة، ولم ينضج بدرجة كافية؛ فصار نتاجا طبيعيا لحالة تراجع شامل بدأت في السبعينات، واستمرت إلى الآن بتداعيات مريرة كان لها أكبر الأثر في تطاول البعض على مصر، انتقاصا من دورها وريادتها لحساب بلدان أخرى.
لكن مقام مصر في قلب أمتها لا تطاله تلك الأيدي مهما حاولت، أما هؤلاء الذين انحنوا وزلت ألسنتهم؛ فلم يدركوا أن من يستضيفهم من الدول الشقيقة؛ إنما يفعل ذلك إدراكا منه لقيمة مصر ومنزلة فنها.. إدراكا ربما يفوق بكثير إدراك مطربي “الشيفون” ومطربات يجهلن تراث أم كلثوم وشادية ونجاة وممثلات يجهلن تراث تحية كاريوكا وفاتن حمامة وسعاد حسني ونادية لطفى.