رؤى

“حد الكفاية”.. ودلالة التعاون الاجتماعي في الإسلام

لعل الملاحظة المجردة من أي علم، تكفي لنعرف أن كل فرد هو جزء من مجتمع، ولو كان الولد الوحيد لوالديه.. وأن الإنسان -كل إنسان- قد خلق من ذكر وأنثى، وهما كافيان لتكوين مجتمع صغير، لن يلبث أن يزيد أفراده عددًا. بل لعله من النافل القول إن الإنسان الفرد، غير موجود بمفرده في الواقع، ولكن الموجود أفراد ينتسبون إلى نوع الإنسان. إنهم محمد أو أحمد أو سعاد أو فاطمة، وكلهم إنسان. فالإنسان لم يوجد قط في غير “مجتمع”.

يقول سبحانه: “يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا” [النساء: 1].. ويقول تعالى: “يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” [الحجرات: 13].

وإذا كنا قد تناولنا الأبعاد الاقتصادية لمفهوم التنمية في الرؤية الإسلامية في كتابات سابقة؛ فإننا هنا سنحاول التركيز على الأبعاد الاجتماعية، ودلالة التعاون الاجتماعي في الإسلام.

التعاون الاجتماعي

الإنسان إذن عضوٌ في مجتمع. وتطلق كلمة المجتمع، حيثما يوجد “اجتماع”، ومكان “جامع”، وروابط “جامعة”؛ أو بالأحرى، حيثما تكون “جماعة” من الناس، يعيشون “معًا”، في واقع معين “واحد”. وهنا، نلتقي بالأبعاد الاجتماعية، والاقتصادية أيضًا، التي تبدأ من الواقع الراهن إلى المستقبل، في اتجاه تحقيق هدف محدد يتمحور حول تقدم المجتمع.

وبناءً على هذا الهدف، بوصفه ضرورة من ضرورات التطور لأي مجتمع، يأتي “التعاون الاجتماعي”، من حيث إنه الإطار الذي يفرض فيه الإسلام على المسلمين، كافة، كفالة بعضهم لبعض، ويجعل من هذه الكفالة فريضة على المسلم يجب عليه أن يؤديها، في حدود ظروفه وإمكاناته، كما يؤدي سائر فرائضه.

من هنا، يمكن الإشارة إلى أن “التعاون الاجتماعي” يكون في إطار المجتمع “الإسلامي”، على مستويات التعاون “الفردي” و”الأسري” و”الجماعي”.

فمن ناحية، دعا الإسلام إلى التعاون “الفردي”، وفرضه فرضًا على الأغنياء لصالح الفقراء، وهذا التعاون تتسع مظلته دون تفرقة لتنال عموم الناس، وباعتبار أن هذا العمل “واجب” على ذى الميسرة، و”حق” للمحتاجين؛ لذا يجب أن يُعطى بصورة محترمة لا إذلال ولا امتهان ولا تباهي فيها.. يقول سبحانه: “وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ٭ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ” [المعارج: 24ـ25].. ويقول تعالى: “فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ” [التغابن: 16].

ومن ناحية أخرى، اعتبر الإسلام أن سلامة الكل تبدأ من سلامة الجزء، وإصلاح المجتمع الكبير يبدأ من إصلاح “الأسرة”، باعتبارها النواة الصغرى للمجتمع الإسلامي؛ ومن ثم، فقد دعا إلى التعاون “الأسري”.. يقول سبحانه: “يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ” [البقرة: 215].

ومن ناحية ثالثة، ومع دعوته إلى كل من التعاون “الفردي”، والتعاون “الأسري”، فقد وجه الإسلام الأفراد إلى التعاون “الجماعي”، وذلك عندما حثهم على مد يد العون والمساعدة جماعيًا إلى الفرد المحتاج عند الاقتضاء.. يقول سبحانه: “وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ” [المائدة: 2].. ويقول تعالى: “وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ” [التوبة: 71].

حــد الكفاية

مبدئيًا، يعتبر ضمان “حد الكفاية.. لا حد الكفاف”، هو من أولويات “التعاون الاجتماعي” في الإسلام.. وهو ليس حق الفرد فقط كإنسان أو مخلوق، وإنما هو ـ أساسًا ـ حق إلهي مقدس، وذلك بقوله سبحانه: “أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ٭ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ٭ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ” [الماعون: 1ـ3].

والواقع، أن ضمان “حد الكفاية”، لكل فرد في المجتمع، يكاد أن يكون الأساس الذي تقوم عليه مختلف أبعاد “التعاون الاجتماعي” في الإسلام؛ وهو المحور الذي تدور حوله سائر تطبيقاته، ذلك أن “مشروعية الملكية”، في الإسلام، كمثال، إنما تتوقف على ضمان “حد الكفاية”، وأن هدف “التنمية الاقتصادية والاجتماعية”، في الإسلام، كمثال آخر، يتمثل في توفير “حد الكفاية”.

بيد أن الملاحظة التي يجب أن نسوق في هذا المجال هو اختلاف “حد الكفاية”، باختلاف ظروف المكان والزمان. فمن حيث المكان، يختلف “حد الكفاية” باختلاف البلدان حسب ظروف كل مجتمع، فهو في بلد عربي غيره في بلد آخر، وهو في بلد أفريقي غيره في بلد أوروبي. ومن حيث الزمان، يختلف “حد الكفاية” حسب تطور الظروف وتحول الكثير من الاحتياجات، بل والكماليات، إلى ضروريات لا غنى عنها؛ أي إن “حد الكفاية” (أو المستوى اللائق للمعيشة)، اليوم في أي بلد خلافه بالأمس.

ملاحظة أخرى.. وهي أنه ما دام ضمان “حد الكفاية” هو حق مقدس؛ فهو إذن مُلزِم لكل مجتمع “إسلامي”، حق ولو أدى الأمر في مجتمع فقير تشح فيه الموارد والثروة، ألا يحصل أحد من أفراده على الكثير من احتياجاته “الضرورية”، وذلك هو ما عبرت عنه الآية الكريمة: “… وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ” [البقرة: 219].. و”الْعَفْوَ” أي ما زاد عن الحاجة بمعنى “الكفاية”.

وقد يكون أروع نص تشريعي في إشعاعه المحتوى الذي ينبني عليه ضمان “حد الكفاية”، هو المقطع القرآني في سورة “الحشر”، الذي يحدد وظيفة “الفيء”، ودوره في المجتمع.. يقول سبحانه وتعالى: “مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ” [الحشر: 7].

ففي هذا النص القرآني، نجد إشعاعًا يمكن أن يكون “الأساس” الذي تقوم عليه فكرة “الضمان” و”التعاون”، ضمان حد الكفاية والتعاون الاجتماعي.. إنه حق الجماعة كلها في الثروة (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ)؛ وتفسيرًا لتشريع “العمومية”، في “الفيء”، بكونه طريقة لضمان هذا الحق، والمنع عن احتكار بعض أفراد الجماعة للثروة، ووجوب تسخير هذه “العمومية” لمصلحة اليتامى والمساكين وابن السبيل، ليظفر جميع أفراد الجماعة بحقهم في الانتفاع بموارد مجتمعهم ومصادر الثروة فيه، تلك التي خلقها الله سبحانه وتعالى، واستخلفهم فيها.

هذا هو “الأساس”، الذي يقوم عليه ضمان “حد الكفاية”، والذي يتمثل في: “حق أفراد الجماعة كافة في موارد مجتمعهم ومصادر الثروة فيه”، بما يعنيه من ضرورة “التعاون الاجتماعي” بين أفراد المجتمع.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock