ورد اصطلاح “الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ”، مرتين في آيات التنزيل الحكيم؛ وكما يبدو فإن الاصطلاح يتكون من مصطلحين اثنين: الأول، “الرَّاسِخُونَ” ومفرده “الرَّاسِخُ”؛ والآخر، “الْعِلْمِ” ولم نجد أبلغ من التعريف الذي قدمه الباقلاني للعلم، وهو “معرفة المعلوم على ما هو به”، بما يؤكد على إدراك الشيء بحقيقته، أو على حقيقته. أما المصطلح الأول “الرَّاسِخُونَ”، فهو يستند إلى “الرسوخ” الذي يعود في اللسان العربي إلى الجذر “رسخ”، بمعنى “الثبات في الشيء”.
بهذا، يتضمن اصطلاح “الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ” دلالة مؤداها “الذين دخلوا فيه دخولًا ثابتًا متمكنًا”؛ ومن ثم، فهم من اختصوا بفهم دقائق الأشياء، ومعرفتها في حقيقتها؛ لذا، فهم يدرسون العلم ويدرِّسونه.
الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ
ورد الاصطلاح في كتاب الله الكريم، مرتين:
الأولى، في قوله سبحانه: “لَكِنْ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا” [النساء: 162].
وهنا، فإن السياق الذي ترد فيه هذه الآية الكريمة، يتعلق بـ”أَهْلُ الْكِتَابِ” من اليهود، وهو السياق الذي يبتدئ من قوله سبحانه: “يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنْ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً…” [النساء: 153]، وصولًا إلى هذه الآية [النساء: 162]؛ حيث يرد الضمير “مِنْهُمْ” للدلالة على “أَهْلُ الْكِتَابِ” من اليهود.
وهنا، أيضًا، يرد مصطلح “الْمُؤْمِنُونَ” معطوفًا على اصطلاح “الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ”؛ حيث تذكر الآية الكريمة صفاتهم في أربع: فهم أولئك الذين “يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ”، وهم “الْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ”، وهم “الْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ”، وأخيرًا هم “الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ”.
وقد حاولنا الاعتماد على هذه الصفات، التي تذكرها الآية الكريمة لـ”الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ”، لحل إشكالية “أين يكون الوقف” في الآية الأخرى التي ورد فيها الاصطلاح؛ نعني قوله تعالى: “هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الْأَلْبَابِ” [آل عمران: 7]. إذ، هنا، حدث الاختلاف حول: هل “الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ” في محل عطف على لفظ الجلالة “اللَّهُ”؛ أم إن حرف “واو” يأتي على سبيل “الاسترسال”، وإن قوله سبحانه: “يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ” يكون حالًا من “الراسخين” لا من الله سبحانه وتعالى.
وبصرف النظر عن الاختلاف حول “أين يكون الوقف”؛ فإننا نرى أن الرأي الأخير هو الأرجح.. إذ، لا يمكن أن يكون “يَقُولُونَ” هو ابتداء الكلام، لأن هنا سيكون التساؤل حول من هم هؤلاء الذين “يَقُولُونَ”(؟). وبناءً عليه، فإن الراجح عندنا هو أن صفات “الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ”، التي وردت في “سورة النساء: 162” تؤكد أنهم هم من “يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا”.
وكما كانت هذه الآية “سورة آل عمران: 7″، محل اختلاف بين المفسرين حول “أين يكون الوقف”، عند لفظ الجلالة “اللَّهُ”، أم عند اصطلاح “الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ”؛ فإنها، في الوقت نفسه، هي الآية التي يتمحور حولها الأصل في معنى التأويلية في الثقافة الإسلامية بصفة عامة، وفي “ثقافة تأويل الكتاب” على وجه الخصوص.
الاختلاف المنهجي
“التأويلية” مفهوم إجرائي عرفي في تقنيات “القراءة”، وأدوات فهم النصوص، وتبيان معانيها. وهو، بهذا، مفهوم يجب أن يندرج ضمن الإجرائية والآلية، لا ضمن المذهبية.. إلا أن الملاحظة التي نود أن نشير إليها، بادئ ذي بدء، أن كثيرًا من “النقاد العرب” قد ترجم هذا المصطلح إلى العربية في صورته الغربية، بكل فجاجة، فأطلق عليه “الهرمينوطيقا”.. لا ندري لماذا، ما دام العرب عرفوا هذا المفهوم، وتعاملوا معه تحت مصطلح “التأويل”.
وإذا ما حاولنا مقاربة التأويل، من حيث المصطلح والمفهوم، في الثقافة العربية الإسلامية.. فلعل أول ما يواجهنا، في هذا الشأن، أن التأويل: وإن كان معروفًا عند العرب قبل الإسلام، إلا أن “التأويلية الإسلامية” تأسست على كتاب الله العزيز، “النص القرآني”، كونه المصدر الأساس.
وإذا كانت لفظة “تأويل”، في هذه الآية، وردت مضافة إلى “الهاء” الدالة على “المتشابه”.. فلعل هذه الإضافة، هي التي جعلت المفسرين يقصرون معنى التأويل على “التفسير”، ويفهم كثيرًا منهم أن تأويل المتشابه لا يعلمه إلا الله، وأن “التأويل” منهي عنه بفحوى الخطاب، أي: بدلالة الوصف “فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ”.
ولعل ذلك، هو ما أدى بهذا الكثير إلى “رفض التأويل”، أو ـ في الحد الأدنى ـ عدم الترحيب به.. فالصنعاني، في كتابه: “ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان”، لا يرحب بالتأويل، وذلك حين ما يقول: “إن المتأولين إنما يعنون وجوه التأويل بالظن أو الاحتمال، فأما الاحتمال فليس علمه البتة لا حقيقة ولا مجازًا. وأما الظن فقد يسمى علمًا مجازًا، ولكنه هنا ممنوع، لأن العلم المضاف إلى الله تعالى لا يجوز فيه إلا الحقيقة”.. أيضًا، ابن تيمية لا يرحب بالتأويل. ففي كتابه: “موافقة صحيح المعقول لصحيح المنقول”، يرى أن: “الناس لو ردوا إلى غير الكتاب والسنة من عقول الرجال ومقاييسهم وبراهينهم، لم يزدهم هذا الرد إلا اختلافًا واضطرابًا وشكًا وارتيابًا”.. السيوطي، كذلك، لا يأخذ بالتأويل، وذلك بسبب أن: “النقل والرواية عن الثقات قلما يختلف، أما دلائل العقول فقلما تتفق، بل عقل كل واحد يرى صاحبه غير ما يرى الآخر”.
رغم ذلك، فإننا يمكن أن نلاحظ، من جانب آخر، أن كثيرين، في الوقت نفسه، يرحبون بالتأويل ويأخذون به، بشكل عام، وفي ما يتعلق بمشكلة التوفيق بين الدين والفلسفة، خصوصًا..
فابن رشد، مثلا، وبعد أن يتناول معنى التأويل بكونه: “إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية من غير أن يخل في ذلك بعادة لسان العرب”، يؤكد في كتابه: “فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال”، على أن: “كل ما أدى إليه البرهان وخالفه ظاهر الشرع، أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي. وهذه القضية لا يشك فيها مسلم ولا يرتاب فيها مؤمن”.
مثال آخر هو الجرجاني، في كتابه: “التعريفات” يحدد معنى التأويل ويفرق بينه وبين التفسير، فيقول: “إن التأويل في الأصل الترجيح، وفي الشرع: صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى يحتمله، إذ كان من المحتمل الذي يراه موافقًا بالكتاب والسنة”.
ثم يأتي الزمخشري، ليعلل وجود التأويل، عبر تفسيره للآية الكريمة (آل عمران: 7). ففي كتابه: “تفسير الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل”، يرى أن: “الله تبارك وتعالى لو أنزل القرآن كله محكمًا، لتعلق الناس به لسهولة مأخذه، لأعرضوا عما يحتاجون فيه إلى الفحص والتأمل من النظر والاستدلال, ولو فعلوا ذلك لعطلوا الطريق الذي لا يتوصل إلى معرفة الله وتوحيده إلا به. ولما في المتشابه من الابتلاء والتمييز بين الثابت على الحق، والمتزلزل فيه”.
وفي ما يبدو، هكذا، لا نغالي إذا قلنا إن الموقف من “التأويل”، كان قد خضع في الكتابات الإسلامية، غالبًا، إلى الاختلاف المذهبي القائم على اختلاف المنطلق الفكري، العائد بدوره إلى اختلاف في مناهج الاجتهاد، أو إلى اختلاف في الفهم “اللغوي” لبعض الآيات الكريمات الواردة في كتاب الله العزيز.
ومن ثم، فإن مقاربة “التأويل”، كمفهوم وكاصطلاح، في اتجاه محاولة اكتشاف معناه ودلالته.. لابد من تعتمد على دائرة المعنى الذي تتخذه اللفظة في اللسان العربي، وعلى دائرة الدلالة التي تؤكدها مواضع ورودها في كتاب الله الكريم.
وللحديث بقية.