في البحث حول ملامح مفهوم “التسخير” في كتاب الله الكريم، وصلنا إلى ملاحظة مفادها ارتباط اللفظ في مواقع وروده، في آيات التنزيل الحكيم، ليس فقط بالظواهر الطبيعية في الكون؛ ولكن أيضا بعلاقة الإنسان بهذه الظواهر، من منظور إنها ميدان فعله، ومن حيث إنه هو المسئول عن تغيير واقعه وتحقيق أهدافه، بعد هذا الواقع ولو بلحظة من الزمان.
وهناك التقينا بأولى ملامح مفهوم “التسخير” وهي: “تذليل الشيء وجعله مضطردًا في حركته”. ومن ثم، تكون أولى خطوات تدبر هذا المصطلح في القرآن الكريم، هي محاولة وضع اليد على دلالة التسخير كمصطلح وكمفهوم، وأهميته بالنسبة إلى الإنسان، من حيث كونه مُستخلفًا في الأرض لإعمارها.
سؤال التسخير
ولعل الأمر الجدير بالتأمل والانتباه، في آن، أن مصطلح سَخَّرَ، بتشديد حرف الخاء، ورد مرتبطا بـ”مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ”، للدلالة على أن ما في الكون من موجودات ليست مستقلة عن الإنسان ووجوده؛ فهو -أي الكون- بكل “مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ”، لم يوجد إلا من أجل الإنسان، الذي جعله سبحانه وتعالى “فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً” [البقرة: 30].
وقد جاء هذا الارتباط، في آيتين من آيات التنزيل الحكيم..
الآية الأولى، هي قوله سبحانه: “وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ” [الجاثية: 13]؛ أما الآية الثانية، فهي قوله تعالى: “أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ” [لقمان: 20].
وقد أنهينا الأحاديث السابقة بالتساؤل: ما هو مفهوم “سَخَّرَ” الذي يَرد كمصطلح قرآني في آيات التنزيل الحكيم؟
وهنا، لابد من التأكيد على أن التساؤلات التي نطرحها في سياق موضوعات التنزيل الحكيم، إنما تأتي لإثارة الاستفهام حول هذه الموضوعات، التي تُمثل إشكاليات فكرية كبرى. ولنا أن نلاحظ، كيف أن القرآن الكريم يستخدم أسلوب التساؤلات، خاصة في موضوعات الإيمان الكبرى؛ وذلك عبر إثارة الاستفهام حول حكمة الخلق وكنه الخالق وإمكان البعث وحتمية المصير الأخروي.. وغيرها.
وبالتالي.. يُصبح التساؤل حول مفهوم التسخير، وعلاقته بالأشياء والظواهر الكونية، تساؤلًا طبيعيًا يتطلب البحث له عن إجابة ذات دلالة، اعتمادًا على آيات التنزيل الحكيم. إذ يُمكن اعتبار “السؤال” الفلسفي الذي يطرحه القرآن الكريم، وأيضا “التساؤل” الفلسفي الذي يمكن أن يطرحه الإنسان على آيات التنزيل الحكيم، لأجل الإجابة، من أهم مصادر الإثبات والبرهنة العقلية على حقائق الوجود، التي تتطلب أدلة وحججًا ظاهرة ومنطقية.
ولعل ذلك ما يُمكن أن يُفهم من قوله سبحانه وتعالى: “وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ” [لقمان: 25].. وأيضًا، من قوله سبحانه: “وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ” [الزمر: 38].
ثم يأتي السؤال القرآني وإجابته، حول من: “خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ”، وحول من: “سَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ”؛ وذلك في قوله تعالى: “وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّا يُؤْفَكُونَ” [العنكبوت: 61]. وهنا، لنا أن نلاحظ كيف رُبِطَ في سياق الآية الكريمة بين “خَلَقَ” و”سَخَّرَ”، عبر حركة العطف بـ”الواو”.
سنن التسخير
ولعل هذا الربط نفسه، ما يُؤشر إلى أن تسخير “الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ” له ارتباط بخلق “السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ”؛ بما يعني أن السنن التسخيرية إنما تأتي في إطار السنن الإلهية ذات الصلة بالكون. ولأن هذه الأخيرة، مطلوب من الإنسان معرفتها والعمل في إطارها؛ لذلك يُصبح من الضروري، بالنسبة إلى الإنسان الذي جعله سبحانه وتعالى “فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً” [البقرة: 30]، معرفة هذه السنن التسخيرية، والعمل وفق إطارها، بهدف القيام بالمهمة التي استخلفه الله تعالى لأجلها.
بعبارة أخرى، بما أن هناك الارتباط بين سنن التسخير وسنن الخلق، في آيات التنزيل الحكيم؛ لذا يُصبح من الضروري التأكد من أن تسخير الكون، أي تسخير “مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ”، إنما كان للإنسان لأجل وجوده؛ بما يعني أن الكون قد بُني بالقدرة الإلهية على قوانين (سنن) كمية وكيفية تناسب تمامًا الكيان الإنساني في وجوده ابتداء؛ فكأنما الكون قد صُنع لاستقبال الإنسان.
إذ، إن تسخير “الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ” إشارة إلى إعداد الكون كميًا، ليُناسب وجود الإنسان؛ وإن تسخير “اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ” إشارة إلى إعداده كيفيًا لذلك. يقول سبحانه وتعالى: “وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ” [النحل: 12]. وكما يبدو من سياق الآية الكريمة، فإن “النُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ” سبحانه لأجل اهتداء الناس بها، حيث يقول تعالى: “وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ” [النحل: 16]؛ وهو تسخير معطوف على التسخيرين السابقين، لأجل هذا الإنسان.. بدليل: إن في ذلك التسخير “لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ”.
وبالطبع، فإذا كان تسخير “مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ”، قد أراده الله سبحانه وتعالى ليُناسب وجود الإنسان؛ فإنه – في الوقت نفسه- قد جعله سبحانه لاستمرار الحياة الإنسانية، فالسنن الإلهية، ومن ضمنها السنن التسخيرية، مُذللة لاستقبال الوجود الإنساني ولحياته وسيرورتها، لأجل أن يكون بحق “فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً”، لإعمارها؛ كما في قوله تعالى: “وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ” [هود: 61].
وهكذا، فإن استثمار ما سخَّره الله سبحانه وتعالى يُعدّ من فروض إعمار الأرض، وهو تكليف يُسأل عنه الإنسان يوم القيامة… وللحديث بقية.