رؤى

في مسألة الخلق.. الإنسان أم البشر يأتي أولًا؟

في محاولة التمييز بين لفظي الإنسان والبشر، وصلنا إلى أن لفظ “بشر” يرد في التنزيل الحكيم للدلالة على “الوجود المادي” للإنسان، كـ”كائن حي”، في حين يأتي لفظ “إنسان” للدلالة على الوجود المعنوي للبشر، الذي يتسم بصفة العقل والإدراك. ولهذا، عندما ندرس جسم الإنسان، ككائن حي فقط نقول “الطب البشري” ولا نقول الطب الإنساني؛ أما عندما ندرس ما يتعلق بالإنسان ككائن حي عاقل له سلوك واعٍ، فإننا نقول “العلوم الإنسانية”، ونقصد علوم اللغات والنفس والفنون بأنواعها والحقوق والاقتصاد والاجتماع.. وغيرها.

إلا أن التساؤل الذي يطرح نفسه هنا، يتعلق بمن يأتي أولًا في مسألة الخلق.. الإنسان أم البشر؟

البشر والخلق

وردت كلمة بشر، في جميع صيغها، في آيات التنزيل الحكيم 37 مرة؛ وهي كلمة معنية بالدرجة الأولى بشكل وهيئة الإنسان التي خلقه الله سبحانه وتعالى عليها، بمعنى إنها وصف للجسد دون العقل الذي هو مناط التكليف.

بيد أن الملاحظ، هو ارتباط لفظ “خلق” مع لفظ “بشر”، في عددٍ من آيات القرآن الكريم؛ كما في قوله سبحانه وتعالى: “إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ” [ص: 71]؛ وكما في قوله سبحانه: “وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ” [الحجر: 28].. أيضًا، في قوله تعالى: “بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ” [المائدة: 18]؛ وفي قوله: “وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ” [الروم: 20]؛ وفي قوله: “وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنْ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا” [الفرقان: 54].

بل، إن “إبليس” عندما اعترض على أمر السجود، كان اعتراضه على السجود لـ”بشر”؛ كما في قوله سبحانه وتعالى: “قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ٭ قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ” [الحجر: 32-33].

وبالتالي يمكن هنا ملاحظة أن تعبير “الخلق” إنما يأتي في حال من الترابط مع “البشر”، كوصف للجسد دون العقل الذي هو مناط التكليف.

الإنس والخلق

في الوقت الذي ورد فيه لفظ “بشر” 37 مرة في آيات التنزيل الحكيم، فقد ورد لفظ “إنس” 19 مرة، ولفظ “إنسان” 65 مرة؛ بما يُشير إلى الدورة الدلالية “الواسعة” التي يتخذها لفظ “إنسان” في آيات الله البينات، من حيث كونه مناط “التكليف”.

أما بالنسبة إلى لفظ “إنس”، فهو اسم جنس للإنسان يُميزه عن “الجن”. ولذلك، نجد أن 18 مرة من المرات 19 التي ورد فيها لفظ إنس، في القرآن الكريم، اقترنت جميعًا بذكر الجن؛ كما في قوله سبحانه وتعالى: “وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا” [الأنعام: 112]؛ وكما في قوله سبحانه: “وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ” [النمل: 17]؛ وكما في قوله تعالى: “وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ٭ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا” [الجن: 5-6].

أما المرة الوحيدة التي ورد فيها لفظ إنس غير مقترن بالجن، فكانت في سورة مريم، في قوله سبحانه: “فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنْ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا” [مريم: 26] وهنا ورد لفظ إنس مقترنًا بلفظ بشر.

وعليه، فإن لفظ “الإنس” يؤشر إلى اسم جنس للناس، والإنسان في تمييزه عن مخلوقات أخرى كـ”الجن”. هذا ولم يرد لفظ الإنس مع لفظ الخلق، إلا في آية واحدة من آيات الذكر الحكيم، في قوله تعالى: “وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ” [الذاريات: 56].

الإنسان والخلق

من الملاحظ أنه في جميع المرات التي ورد فيها لفظ “إنسان”، فقد ترافق معها معنى ثابت يدل على التكليف، بمعنى أن الإنسان هو مناط التكليف الإلهي في مسألة “افعل ولا تفعل”. ويبدو ذلك في عدد من الآيات البينات، كما في قوله سبحانه وتعالى: “وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا” [الأحقاف: 15]، وفي قوله سبحانه: “يَاَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ” [الانشقاق: 6]؛ وكذا في قوله تعالى: “وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ” [آل عمران: 97].

أما اقتران لفظ “الخلق” بلفظ “الإنسان”، فقد ورد في آيات كثيرة؛ كما في قوله سبحانه وتعالى: “خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ” [النحل: 4]؛ وكما في قوله سبحانه: “الرَّحْمَنُ ٭ عَلَّمَ الْقُرْآنَ ٭ خَلَقَ الْإِنسَانَ ٭ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ” [الرحمن: 1-4]؛ وكما في قوله تعالى: “خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ” [الرحمن: 14].

ولعل من قائل يقول، لقد اقترن الخلق بالبشر كما اقترن بالإنسان؛ فما الفارق إذن؟

يتبدى الفارق بوضوح عند ملاحظة لحظة “خلق البشر”، والأمر الإلهي للملائكة بالسجود؛ إذ، إن الملائكة لم تتساءل عن عملية خلق البشر، أي عن المخلوق، أو عن أفعاله، مع ملاحظة أنهم امتثلوا لأمر الله في السجود؛ وذلك على عكس تساؤلهم بالنسبة إلى عملية “جعل آدم خليفة”. هذا، فضلًا عن “إبليس” الذي يُعلن عن استكباره في لحظة الاستخلاف وليس في مبتدأ الخلق البشري.

وهو ما يتأكد عبر قوله تعالى: “إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ ٭ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ٭ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ٭ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ” [ص: 71-74]. وهنا، لنا أن نلاحظ أن استكبار إبليس جاء بعد “التسوية” و”نفخة الروح”، أي في اللحظة التي أصبح فيها آدم يختلف عن ما كانت عليه “البشرية” من قبله، وبالتحديد في اللحظة التي أصبح فيها آدم جاهزًا ليكون “خليفة”.

بل، إن الأمر يبدو بصورة واضحة عند تأمل الآيات التي ورد فيها “الجعل” مقترنًا بالإنسان، وتكليفه بأن يكون خليفة في الأرض.. كيف؟

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock