في البحث حول مفهوم “التسخير” في كتاب الله الكريم، وصلنا إلى أن تسخير “اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ” إشارة إلى إعداد الكون كيفيًا، ليُناسب وجود الإنسان؛ وأن تسخير “الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ” إشارة إلى إعداده كميًا؛ لذلك، فإن في ارتباط “النُّجُومُ” مع هذين الأخيرين، في ثلاثية “الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ”، كظواهر كونية “مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ” عزَّ وجل، تأكيد على هذا الإعداد الإلهي للكون، لأجل إنجاز الإنسان لمهمته في “الخلافة” وتعمير الأرض.. وإعمارها.
ولعل هذا يتأكد عبر قوله سبحانه: “وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ” [النحل: 12]؛ وكما يبدو، فإن ثلاثية الظواهر الكونية تأتي، كـ”مُسَخَّرَاتٍ”، مترابطة مع تسخير “اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ”، وأن هذه الظواهر الكونية “الخمس”، هي آيات كونية سخَّرها رب العالمين للإنسان.
دلالة الحركة
ولعل أهم الدلالات التي تؤشر إليها هذه الآيات الكونية “الخمس”، التي سخَّرها رب العالمين للإنسان، هي سُنَّة، أو قانون، الحركة؛ وهذا ما سبق أن تناولناه عبر محاولة تدبر قوله تعالى: “إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ” [الأعراف: 54].
وهنا، فإن الأمر الجدير بالتأمل والانتباه في آن، أن سياق الآيات الكريمات السابقة، تؤشر إلى أهم سُنَّة من سنن التسخير، ألا وهي قانون “الحركة”. إن قوله سبحانه: “يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا” [الأعراف: 54]، الذي يتكامل مع قوله تعالى: “وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ” [النحل: 12]، يأتي ليدل على هذه “الحركة”.
إذ إن “يُغْشِي” تدل على تغطية شيء بشيء؛ أما “يَطْلُبُهُ حَثِيثًا” فيدل على الحركة السريعة، من حيث إن “الحث: هو الجِد في الإعجال”. ولعل التأكيد على هذه الحركة، يتبدى عبر قوله عزَّ وجل: “لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ” [يس:40]. ولعل ذلك ما يؤكد أولى ملامح مفهوم “التسخير”، أي: “تذليل الشيء وجعله مضطردًا في حركته”.
ويتضح هذا بصورة كاشفة، في قوله سبحانه وتعالى: “وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ” [إبراهيم: 33]؛ وذلك عبر التعبير القرآني: “دَائِبَيْنِ” إذ إن أصل الدأب: العادة المستمرة؛ ومعنى “الدءوب” دوام الشيء في العمل على عادة مضطردة (وهي أكثر صحة، في نظري، من “مطردة”)؛ يُقال دأب يدأب دأبًا ودءوبًا، للدلالة على الملازمة والدوام. وقوله “دَائِبَيْنِ”، يُشير إلى اضطرادهما، أي “الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ”، في الحركة والاستمرار فيها، كـ”عادة” لهما، وتأثيرهما في إزالة الظلمة وإصلاح النبات والحيوان؛ فالشمس سلطان النهار، والقمر سلطان الليل.
هدف الحركة
ولنا أن نلاحظ الارتباط، الواضح في سياق الآية الكريمة، بين “سَخَّرَ لَكُمْ”، وبين دلالة هذا التسخير: “دَائِبَيْنِ”؛ من حيث الملازمة والدوام.. وهو ما يتأكد على لسان “يوسف” عليه السلام في قوله سبحانه: “قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ” [يوسف: 47].
وهنا، يتبدى أيضًا أن “دَأَبًا” لا تؤشر وحسب إلى الملازمة والدوام؛ بل تؤكد الآية الكريمة أيضًا على أن “دَأَبًا” هذه بوصفها “عملية مضطردة”، لها نتيجة في المستقبل، بدليل: “فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ”. هذا وإن كان يعني أن “الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ”، تدل على الحركة والاستمرار فيها فإنه يؤكد أيضا أن هذه الحركة لها غاية وهدف، وليست حركة “اعتباطية”، وأن هدف هذه الحركة يمكن للإنسان الاستفادة منه لمصلحته، في سبيل إنجاز مهمته في تعمير الأرض.. وإعمارها.
وبالتالي، فإذا كانت أولى ملامح مفهوم “التسخير”، هي: “تذليل الشيء وجعله مضطردًا في حركته”؛ فإنه اعتمادًا على ذلك، يُمكن تحديد مفهوم “التسخير” كـونه “سُنَّة إلهية” في “جريان الأشياء والظواهر على عادة مضطردة، بطريقة معروفة أو تمكن معرفتها”.
ولنا أن نشير، في هذا المجال، إلى أن التسخير كـ”حركة ذات هدف”، يتبدى من خلال روعة التصوير القرآني في ذِكْر النعم، التي سَخَّرَها سبحانه وتعالى لعباده؛ إذ تأتي النعمة الأكثر نفعًا لتتقدم على التالية لها قياسًا إلى منفعة الإنسان. ومن ثم تتقدم “الشَّمْسُ” على “الْقَمَرِ”.. لأن نعمة “الشَّمْسَ” أكثر نفعًا وأعم فضلًا من نعمة “الْقَمَرِ”؛ ويؤكد هذا اتساق الآيات مع بعضها البعض.
الظواهر الكونية
فبالنسبة إلى “الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ”، يقول سبحانه وتعالى: “أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ٭ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا” [نوح: 15-16].. ويقول سبحانه: “هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ” [يونس: 5].. ويقول تعالى: “تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا” [الفرقان: 61].
ومن خلال سياق الآيات الكريمات، هذه، يتضح أن تسخير “الشَّمْس وَالْقَمَر” لا يتوقف عند حدود دوام الحركة والاستمرار فيها؛ ولكنه يتجاوز ذلك إلى الهدف الإلهي من هذا التسخير؛ من حيث إن الله سبحانه وتعالى “هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا”، وأن هذه “الشَّمْسُ” ليست “ضِيَاءً” فقط، بل “سِرَاجًا”؛ وأن “الْقَمَرَ” قد جعله الله “نُورًا” و”مُنِيرًا”، وأيضًا “َقَدَّرَهُ مَنَازِلَ” لأجل أن يعلم الناس “عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ”.
وهنا، لنا أن نؤكد على مسألة أساسية، تتعلق بالدقة التي يتبدى عليها “المصطلح القرآني”، عبر آيات التنزيل الحكيم؛ إذ إن تسخير “الشَّمْس وَالْقَمَر” يؤشر إلى التفاعل في ما بين عنصرين لهما امتداداتهما الكونية؛ فالشمس كما في سياق الآيات، يُشار إليها مقترنة بالضوء، باعتبارها “مصدر حراري”، أما القمر فيُشار إليه مقترنًا بالنور، بوصف هذا النور انعكاسًا لضوء الشمس؛ ولا يمكن أن نجد في آيات التنزيل الحكيم أي ربط بين قمر وضوء، أو شمس ونور.
أما عن “اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ”، فيقول سبحانه وتعالى: “هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ” [يونس: 67].. ويقول سبحانه: “وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ٭ وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا” [النبأ: 10-11].. ويقول تعالى: “وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا” [الإسراء: 12].
وعبر سياق الآيات الكريمات هذه، يتضح أن “وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ” [النحل: 12& إبراهيم: 33]، لا يتوقف عند حدود التعاقب في “الحركة” بينهما؛ ولكنه يتجاوز ذلك إلى أن الله سبحانه وتعالى قد جعل الليل “لِبَاسًا”، وذلك “لِتَسْكُنُوا فِيهِ”، في حين أنه جعل النهار “مَعَاشًا”، كأحد أهداف حركة التعاقب تلك؛ بل وتتوالى هذه الأهداف، فإضافة إلى “لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ”، لم يجعل الله عزَّ وجل “اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ” فقط؛ ولكن جعل إحداهما مميزة عن الأخرى بأنها “مُبْصِرَةً” وهي آية النهار، من أجل هدف محدد: ليس فقط ليكون النهار “مَعَاشًا”، بل أيضًا “لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ”.
وهكذا، تتكامل سُنن التسخير، تسخير الأشياء والظواهر الكونية لمصلحة الإنسان؛ من خلال “جريان الأشياء والظواهر على عادة مضطردة، بطريقة معروفة أو تمكن معرفتها”… وللحديث بقية.