فن

محمود البزاوي..موهبة غادرت موقعها خلف الكاميرا لتبهرنا!

محمد سيد الغريب الذي رصد الصهاينة 20 ألف جنيه لمن يدلي بمعلومات تمكنهم من الإيقاع به، قضى غدرا، أثناء حصار السويس، على يد الخائن فرج الأكتع الذي نال أجر خيانته ثروة هي رواتب ضباط وجنود الجيش الثالث الميداني.. هذه الشخصية التي غادر من أجلها محمود البزاوي، موقعه خلف الكاميرا مساعدا للمخرج عاطف الطيب، ربما لم تغادره إلى يومنا هذا رغم مرور أكثر من ثلاثة عقود.

ثلاثة مشاهد في “كتيبة الإعدام” ستمتد دقائقها لتكون سمتا ثابتا لمحمود البزاوي ابن حي المنشية الجديدة بمدينة المحلة الكبرى.

بعد ذلك بنحو عامين مع الطيب تتقلص العبارات في “الهروب” مع ظهوره في دور عبد الله الأخ الأصغر لمنتصر، لكن ذلك لا يحزنه لأنه يجزم بأن “التمثيل بالصمت أبلغ من التمثيل بالكلام” كما أنه يسلّم للطيب بالعبقرية التي تجعله يقنع بهذا بل بأقل منه.

لكن محمود حذِر أيضا من القناعة التي تنقلب إلى تسليم بالأمر الواقع؛ فلم يمنعه الرضا بالمقسوم من البحث والجد لاقتناص الفرص المناسبة لحجم مواهبه المتعددة التي تعرّف عليها مبكرا عندما كان يستمع باهتمام إلى قصائد أخيه مصطفى المثَّال الموهوب خرِّيج الفنون التطبيقية.

محمود البزاوي

في هذه الأجواء كان من الطبيعي أن يحاول الفتى كتابة الشعر، بعد استغراقه في قراءة دواوين دنقل وحجازي وعبد الصبور والبياتي وغيرهم.. لكن قراءة المسرح الشعري جذبته؛ ليستولي عليه بعد ذلك المسرح بالكلية؛ فيتجه إلى كتابة النصوص المسرحية. ويشغله هذا العالم الرحب عن الدراسة فيخفق أكثر من مرة.

في هذه الحالة الباعثة على الإحباط والتسليم بانكسار الحلم، كانت أمه الداعم الأول له إذ كانت تؤكد للجميع أنه قادر على تحقيق النجاح؛ بل الوصول إلى مكانة مرموقة بقولها: “بكرة تشوفوا محمود ابني هيبقى إيه”.

على سبيل حسم الخيارات يذهب محمود البزاوي إلى القاهرة وهو دون العشرين لم ينه بعد أمر الثانوية العامة؛ ليسجل اسمه في إحدى المسابقات المخصصة لاكتشاف المواهب التمثيلية. يؤدي مشاهده في المسابقة على نحو رائع. قدرة وتمكن واستيعاب كامل لمتطلبات الأداء؛ تنال إعجاب أعضاء اللجنة.

يناديه الفنان نور الشريف وكان أحد أعضاء لجنة المسابقة ليهنئه ويحييه على براعة الأداء ويسأله عن أحوال دراسته؛ ثم ينصحه “روح خُد الثانوية وقدم ورقك في معهد فنون مسرحية. فالموهبة الفطرية التي لا تنمَّى بالدراسة تخبو وتندثر”.

ربما كانت هذه النصيحة هي ما كان يبحث عنه محمود البزاوي.. ربما كانت بمثابة الضوء الذي حدد له اتجاه المسير. حسم الأمر ولم يُضيّع الوقت، فكان في العام التالي طالبا في معهد المسرح في قسم التمثيل ينظر إلى العالم بعيني متأمل يُمحّص المشاهد بعقل متقد.

حفل عقد التسعينات بالنسبة للبزاوي بالعديد من المشاركات في المسرح والسينما والتليفزيون، في دور الشاذلي في مسلسل “ذئاب الجبل”، الذي يُعد من أنجح المسلسلات جماهيريا. فرض البزاوي حضورا خاصا وسط الكبار، رغم محدودية الدور.

وفي مشهد واحد في “طيور الظلام” يبدع محمود البزاوي في رسم شخصية القاضي المحافظ الذي تسيطر عليه النزعة الدينية، فتأتي أحكامه وفق هواه وليس بمقتضى القانون.

وإلى جانب أحمد زكي يبدع مجددا في دور السادات في “ناصر 56″، ومع هنيدي في “همام في أمستردام” صنع بحرفية دور طه القناوي الصعيدي المغترب الباحث عن فرصة. يقتضي الإنصاف القول أن دور طه كان الدور الأهم في الفيلم بعد دور همّام، حيث كان محمود البزاوي قاسما مشتركا في معظم المشاهد الكوميدية في الفيلم.

مع الألفية الجديدة تهيِّئ الظروف للفنان الموهوب الاشتراك في العديد من الأعمال التليفزيونية، ما يؤثر على تواجده في السينما والمسرح دون غياب كامل. بداية من دور طارق وكيل النيابة في “أوبرا عايدة” مرورا بأعمال درامية متميزة للغاية مثل “أمانة يا ليل” و”زمن عماد الدين” و”ريا وسكينة” و”حارة الزعفراني”.

ترك محمود البزاوي بصمات واضحة في الدراما خاصة في دور الأبنودي في مسلسل “العندليب.. حكاية شعب”، ما جعل الشاعر الكبير يشيد بأدائه واصفا إياه بالمذهل، معبرا عن دهشته من استحضار محمود البزاوي لمشاعر بعينها أثناء أداء الدور في المشاهد المختلفة.

يحتفظ محمود البزاوي بتقدير كبير لدوره القصير في فيلم “زي النهارده” لأنه جاء مُرتجلا دون نص مكتوب. نراه يُشَخِّص أداء تاجر المخدرات وهو يحاول مغالطة “موعادل” الشاب المدمن الذي دفعه الإدمان لارتكاب العديد من الجرائم- أدّى الدور آسر ياسين- يتألق محمود البزاوي في المشهدين على ما فيهما من عنف ينتهي بقتله وإلقائه من أعلى البيت الذي كان يختبئ فيه “موعادل”.

مع بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، كانت مصر تتنسم عبير الحرية. بينما يحاول محمود البزاوي مغالبة مصاعب الطريق مع اقترابه من نهاية عقده الخامس؛ لكن قدرته على التحدي تزيد بعد تحقيق بعض النجاحات على مستوى الكتابة في أعمال درامية جيدة: مسلسل “مكان في القصر”، ” لحظات حرجة”، و”الأدهم” وكتابة المعالجة الدرامية والسيناريو والحوار لمسلسل “الريان” وفي السينما كتب فيلم “كلاشينكوف”.

في رائعة المؤلف وحيد حامد “بدون ذكر أسماء” نرى محمود البزاوي في مشهد بالغ العمق والتأثير تختلط فيه الكوميديا بالتراجيديا حين نرى دياب الكومبارس يلح في الظهور كواحد من الكفار في أحد مشاهد عمل ديني يشارك فيه.

إذ تكمن مشكلته، كما فسّرها بعد ذلك، في ملامحه الطيبة التي تجعله ضمن المؤمنين في كل عمل يظهر فيه. المؤمنون لا ينالهم نصيب من طعام أو شراب أثناء التصوير، فهم بين الصيام والقيام والدرس والجهاد فقط لا غير. إلحاحه على المخرج ليكون بين الكفار كان هدفه أن يغتنم “فخدة” خروف ينشب فيها أسنانه ولا يتركها إلا عظما، بعد أن صم أذنيه عن نداءات المخرج المتكررة بالتوقف لقول الجملة.. مشهد تنفتح دلالاته على أكثر من مغزى!

صدِّيق البكري في “جراند أوتيل” دور يحمل الكثير من الومضات الإبداعية. بين حال العاشق وحكمة العارف وانكسار رجل عانى كثيرا من الهزائم المتلاحقة. يصنع لنا محمود البزاوي في هذه الدراما مزيجا يستحق التأمل.. في عمل متكامل كهذا برع الفنان في منافسات الأداء مع سوسن بدر وأنوشكا ومحمد ممدوح وأحمد داود وعمرو يوسف ودينا الشربيني، لنشاهد مسلسلا سيظل لسنوات أحد أهم أعمال الدراما المصرية.

الشيخ عاطف في “شيخ جاكسون” في دور الخال يمتعنا محمود البزاوي مجددا بأداء هادئ متمكن لرجل من مشايخ صحوة التسعينات يحترف إنتاج الكتب وشرائط الكاسيت الدينية. يدفعه وفاؤه لذكرى أخته وأمور أخرى.. إلى احتضان ابنها ورعايته، خاصة بعد خلافه الشديد مع أبيه الذي يعيش حياة دون ضوابط.

يصنع الشيخ عاطف من ابن أخته نسخة منه، كما يصنع نحَّات تمثالا لنفسه، لكن تمثاله يبدأ في التصدع والانهيار بعد أن يرده خبر موت جاكسون إلى عالمه الأول الذي غادره على سبيل الهرب من واقع تعيس.

في مباراة الأداء بين أبطال العمل أحمد مالك وأحمد الفيشاوي والعملاق ماجد الكدواني في دور الوالد، لم يكن محمود البزاوي بعيدا، بل أثبت فيها حضورا متميزا في أكثر من مشهد بأداء يبتعد كثيرا عن المبالغات الفجة التي تحفل بها كثير من الأعمال الفنية عند تقديم مثل هذه الشخصيات.

في نفس العام 2017، يشارك محمود البزاوي في دراما رمضان من خلال مسلسل “كلبش” في دور العميد صلاح الطوخي بإدارة التفتيش الذي يتولى البحث عن الضابط الهارب سليم الانصاري.

وفي الجزء الثاني من العمل يشارك محمود البزاوي في الكتابة، فتتاح للعميد صلاح مساحة أكبر يتألق فيها البزاوي بشكل لافت. ربما طغى في أحيان كثيرة على الشخصية الرئيسة في المسلسل.

أما شخصية مجدي في مسلسل “سابع جار” فكانت من أهم علامات مسيرة محمود البزاوي لأسباب عديدة لا تتعلق بالنجاح الجماهيري غير المسبوق الذي حققه المسلسل في جزئيه فحسب، بل تتعلق بتفجر ينابيع الأداء الكوميدي لدى محمود البزاوي على نحو مدهش.

لنرى مجدي النصاب الذي يستغل طيبة زوجته وأهلها ولا يكف عن الكذب والتحايل والاختفاء ومعاودة الظهور. وعندما تقرر زوجته الانفصال عنه يأسا من انصلاح حاله، ينكسر مجدي لكنه لا يراجع نفسه؛ بل يستمر في طريقه ويعاود الهرب.

تناديه السينما مجددا مع انقطاع الأمل في مساحات أكبر في الأدوار فيشارك في أربعة أعمال هي: “البدلة” و”تراب الماس” و”ليلة هنا وسرور” و “بني آدم”.

في عام 2019، يتواجد البزاوي في العديد من الأعمال منها مسلسل “بدل الحدوتة تلاتة” و”علامة استفهام” و”الزوجة 18″ و”أبو جبل”  و”أهو ده اللي صار”  بالإضافة إلى مشاركته في فيلم “كازابلانكا”.

ثم يخوض محمود البزاوي تجربة سينمائية جديدة في فيلم “خان تيولا” حيث تدور أحداث الفيلم في حقبة الأربعينات خلال الحرب العالمية الثانية داخل أحد الفنادق بمدينة العلمين، ويلعب الفنان دور صاحب الفندق الذي يعيش مع أسرته المكونة من زوجته وابنه وابنته، ويصل إليهم في أحد الليالي نزيل جديد، لِيُفَاجَأ الجميع بالكثير من الأشياء الغامضة والأحداث الغريبة.

كان البزاوي قد اعتذر أكثر من مرة عن أداء الدور لكنه قبله في النهاية؛ ليصاب أثناء التصوير إصابة بالغة يتوقف معها التصوير عدة أيام. وقد تراوحت ردود الأفعال حول العمل، ما بين مشيد به، ومؤكد أنه دون المستوى.

في الدراما الرمضانية عام2021 شارك الفنان “محمود البزاوي” في ثلاثة أعمال هي: “بين السما والأرض” في دور عارف، وفي مسلسل “قصر النيل” وهو عمل درامي متميز تدور أحداثه في الأربعينات من القرن الماضي في دور ممدوح مدير حسابات وكاتم أسرار الباشا الراحل فهمي السيوفي، حيث تحوم الشبهات حول ممدوح أنه الوحيد الذي يعلم أين أخفى الباشا ثروته. وبدور متميز في مسلسل “هجمة مرتدة” الذي أحدث مردودا طيبا لدى المشاهدين والنقاد.

وفي نفس العام يشارك في أربعة أعمال سينمائية خفيفة هي: “عروستي” و”فرق خبرة” و” أحمد نورتردام” بالإضافة إلى فيلم “200جنيه” الذي شارك في بطولته عدد كبير من النجوم.

وخلال الفترة الماضية شارك البزاوي في أكثر من عشرة أعمال تليفزيونية، كان أفضل له في “جزيرة غمام” في دور بطلان، ودور زاهي في مسلسل الرعب “شقة 6” و دور شحاته في مسلسل “سوق الكانتو”.. بالإضافة إلى عدة أعمال سينمائية كوميدية أهمها فيلم “الرجل الرابع” و”المطاريد”.

تمتع البزاوي بموهبة حقيقية أنضجت على مهل.. فانتزعت مساحات الإبداع انتزاعا رغم اختلال ميزان الفن الذي تحكمه ضوابط أخرى؛ بالطبع مع مرور السنوات انخفض سقف الأحلام.. ابتعدت أدوار البطولة.. قبل العديد من الأدوار التي لا تليق بموهبته.. لكنه مازال “يعافر” دون كلل.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock