رغم أن إسهام دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في الانبعاثات الحرارية – أقل كثيرًا عن الدول الصناعية الكبرى في شمال العالم؛ إلا أنها الأكثر تضررًا من تداعيات التغيرات المناخية. وبينما تعبث هذه التغيرات بكثير من مناطق العالم.. ضربت حرائق الغابات عددًا من دول الإقليم، وتحديدًا تلك المُطلة على البحر الأبيض المتوسط، في الجزائر وتونس، وتركيا واليونان وإيطاليا، فضلا عن المغرب وسوريا.
ما يُهدد بتحول أجزاء من أراضي هذه الدول إلى أراضٍ قاحلة؛ كما يؤدي إلى “تداعيات متشابكة” على دول الإقليم، ما بين التراجع في إنتاج المحاصيل الزراعية، والانخفاض في منسوب مياه الأنهار، ما من شأنه تأجيج الصراع على الموارد؛ وما بين الآثار البيئية السلبية، التي تُهدد التنوع البيولوجي، إضافة إلى تزايد نسبة تهجير البشر من لاجئي المناخ، إلى جانب الخسائر في الأرواح والممتلكات.
وما بين هذا وذاك، تتنوع الأبعاد السياسية، وتتشابك تداعياتها على دول الإقليم؛ بشكل يُساهم في عدم الاستقرار المجتمعي، في داخل دول متعددة منها، كنتيجة منطقية لتبادلية العلاقة بين تغيرات المناخ والتوترات الداخلية.
إشكاليات رئيسة
عديدة هي الإشكاليات التي تنتج عن التغيرات المناخية على الدول عمومًا، وتلك المتعلقة بالأبعاد السياسية لها بوجه خاص.. والتي يمكن تناولها فيما يلي:
أولًا: الارتباط بين تغيرات المناخ والصراعات؛ إذ بصرف النظر عن أسباب حدوث التغيرات المناخية، فإن كثيرًا من الصراعات والتوترات الداخلية والإقليمية، تُمثل ناتجًا ظاهرًا لتلك التغيرات؛ من حيث إنها تؤدي إلى موجات من الجفاف والتصحر، وانخفاض في منسوب المياه في الأنهار، ومن ثم تراجع الإنتاجية الزراعية، وتدهور مستويات المعيشة؛ بل وغياب الحد الأدنى من الاحتياجات المجتمعية، بما يُساهم في اندلاع الصراعات والحروب.
وبالتالي تبدو تبادلية العلاقة بين الصراعات المسلحة، والتوترات الداخلية وتغيرات المناخ بتأثيراتها السلبية على البيئة؛ حيث يترتب على هذه التغيرات، تحولات متعددة في أماكن تواجد الثروات الطبيعية والموارد، نتيجة الارتفاع الكبير في درجات الحرارة. وهي الأمور التي تدفع الأفراد والجماعات إلى السعي للسيطرة على أماكن توافر الموارد، ما يؤدي بدوره إلى ازدياد حدة التنافس في ما بينهم، خاصة في المناطق التي يعتمد تلبية احتياجات المواطنين فيها، على الموارد والثروات الطبيعية.
ولعل صراعات القبائل على جانبي الحدود، في عديد من دول الإقليم، بما تُعبر عنه من أبعاد سياسية واحتكاكات بين الدول، تُمثل نماذج صارخة في نتائج تغيرات المناخ السلبية على الموارد الطبيعية.
ثانيًا: عدم الاستقرار الاجتماعي والاحتراب الداخلي؛ حيث تؤدي تغيرات المناخ، وما يُصاحبها من حالات جفاف وارتفاع في درجات الحرارة، أو هطول أمطار، إلى صراع على الموارد، الأمر الذي قد يتحول لاحقًا إلى صراعات مسلحة، أو حرب أهلية تمتد لتطال الاستقرار المجتمعي الداخلي.
والأمثلة على ذلك متعددة؛ حيث يمكن ملاحظة أن الحرب الأهلية في سوريا كمثال، قد تفجرت -إضافة إلى عوامل أخرى كثيرة اقتصادية واجتماعية- بعد حالة من الجفاف الشديد التي تعرضت لها البلاد، بين عامي 2006-2011؛ ما تسبب في إهدار ما يقرب من 75 % من أراضيها الزراعية، فضلًا عن نفوق أعداد كبيرة من الماشية، ما أدى إلى هجرة نحو مليون ونصف المليون سوري من الريف إلى المدن والمراكز الحضارية.
أيضًا، ارتباط جذور الصراع في دارفور – كمثال آخر- بما حدث من تغيرات في المناخ كانت قد طالت الإقليم؛ إذ مع ارتفاع درجات الحرارة.. انخفض هطول الأمطار بنسبة كبيرة، ما أدى إلى تراجع في الإنتاج الزراعي؛ الأمر الذي فاقم من الصراع والاحتراب الداخلي بين القبائل المتعددة في الإقليم. بل، إن الأمين العام السابق للأمم المتحدة، بان كي مون، كان قد رأى أن “الصراع في دارفور هو أول صراع ناجم عن التغيرات المناخية في العالم”.
ثالثًا: تغيرات المناخ وإشكاليات الهجرة والنزوح؛ فمن أكثر النتائج المترتبة على التغيرات المناخية، ما يُطلق عليه لاجئي المناخ أو ضحايا الطبيعة، ممن اضطروا إلى الرحيل لأماكن أخرى بعيدًا عن بيئاتهم، ليصبحوا طرفا في صراعات أو ضحايا للعبودية.. ومما يُزيد من معاناة هؤلاء أنهم خارج أية حماية قانونية، إقليمية أو دولية.
ويعود هذا القصور التشريعي الدولي إلى أن مصطلح “لاجئو المناخ” لم يكن -حتى منتصف ثمانينات القرن العشرين الماضي- شائعًا في التداول أو الاستخدام؛ حتى عرّف الخبير المصري في برنامج الأمم المتحدة للبيئة عصام الحناوي، هؤلاء بأنهم: “أشخاص أُجبروا على ترك موطنهم التقليدي بشكل مؤقت أو دائم، بسبب وضع علامة على الاضطراب البيئي”.
واللافت، أن قناة “DW” الألمانية، كانت قد نشرت منذ حوالي عشرين شهرًا، في ديسمبر 2021، تقريرًا حول التغير المناخي الذي تشهده درجة حرارة الأرض، وبالأخص منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والذي يُهدد بـ”موجات لجوء جديدة”. وفي هذا التقرير، أكد مدير معهد “ماكس بلانك” الألماني وباحث المناخ، يوس ليليفلد، أن “منطقة الشرق الأوسط تحولت إلى نقطة ساخنة للتغير المناخي”؛ وهو الأمر الذي “يجعل كثيرًا من أماكنها غير صالحة للسكن، مما يؤدي إلى الضغط نحو الهجرة”.
رابعًا: تصاعد الاحتجاجات وتردي الأمن الإنساني؛ إذ قد تتسبب تغيرات المناخ في تفاقم عدم الاستقرار الداخلي، بما يُساهم في إظهار ضعف وهشاشة مؤسسات الدولة، وغيابها عن توفير الاحتياجات الأساسية لمواطنيها؛ بما يؤدي إلى تنامي الاضطرابات الاجتماعية، وتفاقم غضب المواطن على الحكومة وأجهزتها المختلفة. ومن ثم زعزعة الاستقرار ونشوب المزيد من التوترات والصراعات الداخلية؛ بل، قد يؤدي الأمر إلى إسقاط بعض أنظمة الحكم.
وقد اتجهت بعض الدراسات إلى الربط بين تفجر “الثورات العربية” والتغيرات الحادة في المناخ؛ مثل دراسة “الربيع العربي والتغير المناخي”، التي صدرت عن مركز المناخ والأمن في واشنطن، في عام 2013، حيث أشارت الدراسة إلى أن “إخفاق بعض دول االشرق الأوسط وشمال أفريقيا في تلبية الاحتياجات الأساسية للمواطنين، والتصدي لموجات الجفاف والتصحر، ونقص إمدادات الطاقة، دفعتهم للمشاركة في الاحتجاجات السياسية”.
أضف إلى ذلك، الاحتجاجات البيئية التي تصاعدات في دول الإقليم، على مدى السنوات الماضية؛ على غرار الاحتجاجات ضد استخراج الغاز الصخري، في مدن ورفلة وعين صالح في الجزائر، في مارس 2015.
أيضا ما شهدته مصر بين عامي 2011-2012، من احتجاجات ضد مصنع أسمدة موبكو بدمياط، وكذلك احتجاجات سكان قريبة فارس قرب أسوان، في مواجهة عمليات التنقيب عن الغاز.
تكلفة مجتمعية
في هذا السياق، يُمكن القول بأن التهديدات الناجمة عن تغيرات المناخ، أصبحت تتجاوز الأمن البيئي التقليدي، لتصل إلى نطاقات الأمن الإنساني والمجتمعي؛ بما لها من أبعاد سياسية وخسائر اقتصادية أيضًا، بما يؤكد على علاقة الارتباط بين التغيرات الحادة في المناخ، وبين قدرة هذه التغيرات على إظهار مدى قوة الدولة أو ضعفها، في مواجهة تداعيات هذه الظاهرة، التي تُمثل إشكاليات لها آثارها على كافة الجوانب المجتمعية الداخلية.
وإجمالًا، يمكن الإشارة إلى ضرورة تصعيد الضغوط، من جانب دول الإقليم، على الدول الصناعية وسريعة النمو الأكثر إسهامًا في الانبعاثات الحرارية؛ لأجل المساهمة بشكل فعال في التصدي لتداعيات التغيرات المناخية الخطيرة على الاستقرار المجتمعي، والنمو الاقتصادي، في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.