لا يختلف اثنان على أن علاقة الدولة بالمجتمع في المنطقة العربية مأزومة، بل مغمومة وملغومة- لكني مع ذلك أبادر فأقول إن “بعض” البلدان العربية، وهو قليل للغاية، ما يزال بخير وأفضل من غيره في إدارة تلك العلاقة برغم أن عليه أن يقطع خطوات ضرورية حتى لا ينتهي به الحال إلى ما انتهت إليه البلدان العربية التي لم تفشل الدولة فيها فقط في إدارة علاقاتها بمجتمعاتها وإنما -وبكل أسف- يبدو أنها خسرتها. كثير من الدول العربية خسرت ثقة مجتمعاتها فيها وفقدت حماسة الناس للعمل من أجلها، والأخطر من كل ذلك أنها ربما خسرت إيمان المجتمع بفكرة الدولة ذاتها، عندما بدأ الناس يعبرون بالكلام والفعل عن كفرهم بالوطن والمواطنة والوطنية.
ولا ينشغل هذا المقال الموجز بشرح الأسباب وراء تلك الخسارة، فهو لا يسأل “لماذا” وقعت الخسارة، وإنما يتساءل “كيف” وقعت، ويتعجب من تلك الأدوات التالفة التي استعملتها الدولة العربية في إدارة علاقاتها بالمجتمع وأدت في النهاية إلى قطع الجسور بينهما. وقد قصدت أن يأتي المقال على هيئة دليل وجيز manual)) يوضح “كيف” قادت بعض الدول العربية نفسها بنفسها إلى التهلكة في عشرين خطوة.
1- التجاهل: بإهمال المجتمع -من الأصل- والاستخفاف به والترفع عليه وتهميشه؛ كأنه غير موجود أو لا يزيد على أفضل تقدير عن كمّ أو قطيع (تتذكرون عبارة من أنتم؟)
2- التساهل: بالتراخي مع الفساد، وعدم تطبيق القانون وعدم ملاحقة الخطأ والمخطئين.
3- التحايل: بفرض ضرائب باهظة على الناس وتحميلهم بأعباء لا يقوون عليها، واستعمال مختلف أساليب اللف والدوران، وإغراق الناس بوعود زائفة ومراوغات لغوية جوفاء، وإجراءات قانونية عبثية تستهدف التلاعب بمشاعرهم ومصائرهم.
4- التحامل: بإلقاء كل أخطاء الدولة على شماعة بعينها كـ حزب أو تيار دون أية محاسبة من الدولة لنفسها وكأنها معصومة لا تخطئ. وأحيانا ما يتسع التحامل؛ فتلقي الدولة بالعبء كله على المجتمع؛ متهمةً إياه إما بالجهل والتخلف أو بأنه السبب وراء الزيادة السكانية أو بأنه غير جاهز للديمقراطية.
5- التمايل: بالتردد والتذبذب بين الرؤى والحيرة عند اختيار المشروعات الحقيقية التي تفيد المجتمع، فضلا عن الفشل في اتخاذ القرارات المناسبة في الوقت المناسب وإجراء تعديلات حاسمة في الوقت السليم.
6- التضاؤل: بانسحاب الدولة من الاقتصاد، وتهميش دورها في الرعاية الاجتماعية، بدفع من تبريرات ليبرالية مستوردة من الخارج، ما أدى إلى تراجع إحساس الناس بأهميتها في حياتهم، والانسحاب من علاقة الولاء لها، بعد أن انسحبت من علاقة الانتماء لهم.
7- التناقل: بتدوير عناصر نخبة الحكم والمنافع -الضيقة أصلا والفاسدة عادة- بين المواقع القيادية، بما يعطي انطباعا بأن دماءً جديدة تضخ في مفاصل الدولة، بينما هي لا تعدو عن بعض التنقلات التي لا تغير من الأمر شيء.
8- التخاذل: بالتقصير في أداء ما تبقى من المسئوليات العامة التي ظلت تحتفظ الدولة بها لنفسها اسميا؛ بعد تضاؤل وجودها الاقتصادي فعليا. من ذلك تقصيرها في الرقابة على الأسواق والأسعار وتوفير الأمن العام والضمان الصحي والتعليم.
9- التنازل: بتخلي الدولة عن أدوارها ووظائفها، إما لجماعات داخلية منتفعة أو شبكات فساد محلية وإقليمية ودولية واسعة، بل والتنازل أحيانا لجهات أجنبية عن سيادة الدولة في كثير من الحالات.
10- التكاسل: بالتلكؤ في مواجهة المخاطر وغياب الرؤية السليمة من الأصل، وأحيانا أية رؤية من الأساس، وضعف الإحساس بالمسئولية العامة وتفرغ النخبة لإشباع متعها الشخصية أو إرضاء أوهامها الفكرية، بعيدا عما يحتاجه المجتمع من حلول للمشكلات التي تهدده.
11- التثاقل: عندما يتحول التكاسل من خطأ للنخبة إلى ذهنية حاكمة لجهاز الحكم كله، وبيروقراطية الدولة في طريقة إدارتها للشأن العام، بحيث لا تخصص الموازنات في الوقت الصحيح أو بالحجم المناسب، وبحيث لا توضع سياسات عامة سليمة، ناهيك عن إغفال المستقبل وعدم التنبؤ باحتياجات السنوات القادمة.
12- التقاتل: بين تيارات سياسية بينها استقطاب حاد، يدفعها إلى رفض التعايش مع بعضها إلى حد وصل إلى إشعال حروب أهلية وانفجار حالات عديدة للصراع على السلطة.
13- التخايل: بالاستعلاء على المجتمع والتحقير من منظمات المجتمع المدني، وادعاء نجاحات لا وجود لها، عن طريق الكذب الإعلامي، وإظهار صلف وعنجهية في الخطاب الرسمي، الذي يبالغ فيصوّر بعض الأعمال الروتينية على أنها نجاحات مبهرة.
14- التطاول: بالتعدي على حقوق الإنسان وكرامة المجتمع بمختلف صور الانتهاك للقانون.
15- التراذل: وهو تصعيد التطاول، بالتهجم على الناس، والسخرية من الثوابت، والاستخفاف برموز المجتمع وطبقاته، إلى حد يصل إلى وجود سياسة عامة غير معلنة؛ لكنها متعمدة تستهدف الإهانة، ويرعاها جهاز إعلامي للطعن في المجتمع والتحقير منه و تدجينه.
16- التآكل: بتراجع المقدرات العامة للدولة، وإضعاف أدوات التشريع والتنفيذ والتقاضي.
17- التواكل: بإرجاء الحلول باستمرار، وترحيل المشكلات من حكومة إلى حكومة، ومن جيل إلى جيل، مثلما يحدث مع قضية الديون ومشكلات الاقتصاد والصحة والتعليم.
18- التغافل: بتناسي وقوع الخطأ من الأساس، وعدم تصحيحه فور وقوعه، والاستخفاف بالرصد الاستباقي للأزمات، والتنكر لمطالب المجتمع وتطلعاته.
19- التقاول: بتحويل المشروعات العامة إلى ساحة مقاولات، تستهدف تربّح قلة محتكرة، تضم ثُلة من جهاز الدولة، و”شِلة” من المقاولين والسماسرة، الأمر الذي يحول الدولة إلى ما يشبه شركة خاصة، لا يعبأ مجلس إدارتها بغير تعظيم الأرباح الخاصة والتهرب من المسئوليات العامة.
20- التساؤل: بمبادلة المجتمع سؤالاً بسؤال، والهرب من تقديم توضيحات للناس على ما يشغلهم من هموم، بل وتجاهل أسئلة المجتمع من الأساس، واستبدال ذلك بتوجيه أسئلة تعبر له، وكأنه هو سبب التقصير. فبينما من حق المجتمع أن يسأل وعلى الدولة أن تجيب، كثيرا ما قلبت الدولة العربية تلك المعادلة المنطقية؛ فصارت تسأل ولا تقدم إجابة، وأصبح من يمثلونها يخرجون على الناس لا ليقدموا حلولا، وإنما ليرددوا نفس أحاديث الناس، متناسين أنهم أصحاب قوة رسمية تفرض عليهم أن يقدموا إجابات لا أن يطرحوا أسئلة.
قل على كل ما سبق عيب. فهذا من حقك. وقل لو أحببت “عليه العوض”. فهذا لن يكون مستغربا. قل ما تشاء عن الدول التي خسرت مجتمعاتها. فقد يخفف ذلك الهم عنك. لكن الأهم من هم الحاضر سؤال عن المستقبل. فهل يا ترى يمكن إصلاح ما انكسر؟ أم أن بعض الدول العربية التي خسرت مجتمعاتها وصلت إلى نقطة اللاعودة؟
العلم عند الله، وإن كان علم التاريخ يقول أن خسائر من هذا النوع لا يمكن تعويضها.