رؤى

عمر مكرم في دمياط.. صفحة من تاريخ مندثر!

مرت منذ أيام ذكرى نفي السيد عمر مكرم إلى دمياط، بعد استئثار محمد علي بالسلطة، واستطاعته بالمكر والحيلة والترغيب والترهيب.. استعداء المشايخ على الزعيم عمر مكرم، حتى وصل الأمر بهؤلاء المشايخ وعلى رأسهم الشيخ السادات والشيخ الشرقاوي والشيخ الدواخلي- إلى كتابة عريضة اتهام تضمنت شهادة زور على أفعال شائنة، نسبوها ظلما لنقيب الأشراف ذي المكانة العالية في نفوس المصريين السيد عمر مكرم.. لتكون هذه العريضة المرفوعة إلى الباب العالي؛ مبررا لإقالته من كافة مناصبه ونفيه إلى دمياط.. ولتكون وثيقة للتاريخ تشهد على انحطاط وضعة هؤلاء المشايخ الذي ما لبثوا أن نالوا ما يستحقون من الجزاء العادل على يد محمد علي نفسه.. بعد أن استخدمهم على أسوء ما يكون؛ ثم تخلص منهم كالنفايات القذرة.

دمياط هي الأخرى أخذت نصيبها من ظلم الباشا؛ إذ كانت عندما استتب له الأمر، ثاني مدن مصر بعد القاهرة، من حيث الأهمية، يعمرها قرابة الثلاثين ألفا، وهو رقم كبير إذا علمنا أن تعداد المصريين آنذاك كان يزيد قليلا عن ثلاثة ملايين.. وكانت دمياط من حيث عدد السكان خمسة أمثال الإسكندرية، وكان ميناء دمياط هو ميناء مصر الأول، لذلك كثر بها الأجانب والقناصل من مختلف البلاد والجنسيات.

قضى محمد علي، على أهمية المدينة، بشق ترعة المحمودية، وإعادة تعمير ميناء الإسكندرية لتتحول حركة التجارة في معظمها إلى هناك؛ تاركة المدينة العتيقة في طي النسيان.

محمد علي باشا
محمد علي باشا

ارتباط دمياط بالنفي بدأ في عهد المماليك الذين كانوا ينفون إليها السلاطين المعزولين وأبناءهم من الأمراء، ومعظم هؤلاء طاب لهم العيش في المدينة الساحرة التي تحتضن النيل وتنام على شاطئ المتوسط، متوسدةً أكبر بحيرات مصر العذبة.

ولم تعرف المدينة المنفيين من اللصوص والمجرمين والجنود المشاغبين المتمردين من الألبان وغيرهم؛ إلا في عهد الباشا.. حتى اضطربت المدينة بالحوادث والجرائم، وأصبح المقام فيها يشكل خطرا كبيرا في حد ذاته.

كان وصول عمر مكرم إلى المدينة الضاربة بجذورها في أعماق التاريخ في الثالث عشر من أغسطس 1809، لم تكن المدينة الاختيار الأمثل للسيد.. طلب أن يكون منفاه إلى العريش أو أسيوط أو درنه في ليبيا.. لكن الوالي الغشوم رفض.. ولم يكن لدى الزعيم سوى القبول لحكم القوي.. فكانت مدة بقائه فيها اثنين وثلاثين شهرا، إذ غادرها إلى طنطا بعد السماح له بذلك في الخامس عشر من أبريل 1812.

لم يصل إلينا من أخبار السيد الشريف مُدّة بقائه في دمياط- إلا أقل القليل، ويبدو أنه كان محدد الإقامة تحت حراسة مشددة في الفترة الأولى، ثم انفرجت الأمور رويدا رويدا؛ حتى استطاع ممارسة بعض الأعمال التجارية ونحوها، وبنى خانا (فندقا) لينزل به التجار الوافدين على المدينة وما أكثرهم وقتئذٍ.

دمياط
دمياط

إلا أن القصة الرئيسة التي ارتبط بها اسم الزعيم عمر مكرم في دمياط- هي علاقته بالتاجر الثري الشاب محمد بن جلبي أو كما يسميه البعض محمد بن شلبي، وهو حفيد المجاهد الكبير الشيخ حسن طوبار.

كان الشيخ المجاهد الذي أذاق الفرنسيين ويلات الهزيمة عدة مرات في معارك متفرقة في دمياط والمنزلة وبعض قرى الدقهلية- قد قرر السفر إلى الشام والبقاء بها لبعض الوقت، بعد انكسار المقاومة مرحليا أمام إجرام المحتلين.. لكنه مرض مرضا شديدا، ما اضطره لطلب العودة من الفرنسيين الذي اشترطوا أخذ أحب أحفاده إليه رهينة؛ حتى يسمحوا له بالعودة.. وافق الشيخ طوبار، ودفع إليهم بمحمد شلبي؛ فأرسلوه إلى دمياط ليقيم بها تحت أعينهم.

بعد رحيل الحملة طابت الإقامة في دمياط للشاب النابه الذي كان قد أتم تعليمه في الأزهر الشريف، فلم يغادرها إلى المنزلة.. توسعت تجارته حتى صار أغنى أغنياء المدينة، كما عُرف عنه إقباله على أعمال البر.. وورد عن الرجل أنه كان من أهل القراءة والاطلاع، وأنه خالط علماء الحملة وناقشهم عبر ترجمان، وتعلم كثيرا من علومهم، وبهرهم بذكائه وسعة علمه.

لا ندري تحديدا متى سعى التاجر الثري إلى التعرف إلى السيد عمر مكرم، ولا بأي كيفية حدث لقاؤهما الأول إلا أن الشواهد تقول أن صداقة قوية نشأت بين الرجلين، وأن أساس تلك الصداقة، كان حب العلم والنظر في الحكمة التي تجري بها الأمور في دنيا الله، كما تقول الشواهد أيضا أن الشاب الذي كان في الثلاثين من عمره، لم ينشغل بالتحذيرات التي جاءته من خطورة مصاحبة السيد، وأن مغبة ذلك ستكون وخيمة إذا وصلت الأخبار للباشا.

ويبدو أن تقريرا تفصيليا وصل إلى محمد علي من أحد رجاله بدمياط بشأن تلك العلاقة الوطيدة، مع تقرير آخر عن ثراء شلبي ومحبة أهل دمياط له والتفافهم حوله لما يتمتع به من حميد الخصال وحسن القبول.

لم يُضِع محمد علي الوقت؛ إذ أوعز إلى والي دمياط مصطفى أغا؛ بالإسراع بتلفيق تهمة للشاب تُثبت عليه بشهادة نفر من شهود الزور؛ ليحكم عليه بالإعدام، على أن ينفذ الحكم فورا دون إبطاء.

وللأسف لم يهتم أحد من المؤرخين بتبيان تفاصيل تلك المؤامرة الدنيئة، ولا حتى معرفة التهمة الشنيعة التي ألصقوها بالرجل.. وإن كان المُرجح أنه اتهام بقتل أحد الأشخاص.

حاول كبار علماء المدينة إقناع الوالي بتأجيل تنفيذ الحكم، وإعادة النظر في الأمر؛ لكن الرجل كان أسير هلعه من أن يكون هو الضحية إذا خالف أوامر الباشا.. ونُفذ حكم الإعدام شنقا في محمد بن شلبي بن حسن طوبار.. وخرجت المدينة عن بكرة أبيها تشيعه، وعلى رأسهم السيد الشريف عمر مكرم، الذي بكاه كما يبكي الرجل أوفى الأصدقاء.

بعد تنفيذ الحكم الظالم بساعات، انكشفت الحقيقة بكل تفاصيلها، وصارت واضحة للكافة، كالشمس في رابعة النهار.. ولم يحتمل الوالي مصطفى أغا الخزي والعار الذي لحق به جرّاء تدبيره هذه الجريمة الدنسة؛ فمات بعد عدة أيام موصيا أن يكون قبره قبالة قبر شلبي.

دمياط

أما أهل دمياط فقد أقاموا فوق قبر الشهيد ضريحا أطلقوا عليه ضريح المظلوم، وظل الضريح صامدا لفترة طويلة إلا أن هُدم بعد الأحداث التي شهدتها البلاد في 2011، على يد ثُلة من المتطرفين.

ظلمات بعضها فوق بعض.. نفي وتشريد وشهداء زور.. مشايخ بلا ضمير وولاة أمر لا خلاق لهم.. أشباه رجال تحركهم الأوهام. وفي المقابل.. رجال عرفوا الحق وضحوا من أجله بكل شيء، حتى جادوا بأنفاسهم الأخيرة في سبيل الدفاع عن شرف الكلمة.. صفحة من دراما الحياة في مصرنا الحبيبة لا يعرفها الكثيرون؛ تحمل من العِبر الكثير.. فهل من معتبِر؟

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock