تُعد الجزائر ضمن دول الجوار الجغرافي، التي تأثرت بحالة الفوضى المنتشرة في ليبيا، بعد إسقاط نظام القذافي؛ حيث أدّى تدهور الوضع الليبي، وانفتاح جبهة الصراع الداخلي المسلح، إلى انتشار السلاح على الحدود الليبية الجزائرية، بالإضافة إلى بروز جماعات العنف والتنظيمات الإرهابية وما تُمثله من تهديد واضح للأمن الوطني الجزائري. هذا فضلا عن حالات النزوح والهجرة للمواطنين الليبيين إلى الجزائر، وغيرها من دول الجوار الليبي.
والملاحظ أن التأثيرات التي تسببت بها الأزمة الليبية على الأمن الجزائري قد تعددت وذلك نتيجة كون ليبيا تُمثل امتدادا وعمقا جغرافيًا للدولة الجزائرية، حيث يتشارك البلدان الحدود الممتدة إلى 989 كيلو متر، وهي حدود طويلة يصعب ضبطها والسيطرة عليها بسهولة، خصوصا مع حالة الفوضى وانهيار مؤسسات الدولة في ليبيا، وتزايد أعداد الفاعلين والمتدخلين في الأزمة.
ومن ثم، فقد تسبب انهيار الدولة الليبية في بروز عدة مصادر لتهديد الأمن الجزائري.. لعل أهمها ما يلي:
من جهة، تبرز أهم تهديدات الأزمة الليبية على الأمن الجزائري، في انكشاف الحدود الشرقية للجزائر، في ظل غياب التغطية الأمنية والعسكرية من الجانب الليبي، الذي أصبح مصدرًا للتهديد بعد أن كان -في السابق- مصدرًا للمساهمة في تأمين الحدود مع الجزائر؛ وذلك ما فرض على الدولة الجزائرية أعباء إضافية، في ظل عجز باقي دول الجوار المتشاركة في الحدود مع ليبيا والجزائر، وفي مقدمتها تونس، عن المساعدة في تأمين الحدود.
ومع انكشاف الحدود الجزائرية، وانتشار الفوضى وانعدام الأمن في ليبيا، توافد اللاجئون والنازحون الليبيون إلى الداخل الجزائري، مثل توافدهم إلى مصر وتونس؛ ومن ثم، تزايدت أعداد النازحين واللاجئين الليبيين في الجزائر زيادة ملحوظة، رغم إغلاق الحدود البرية الجزائرية.
وقد أحصى الهلال الأحمر الجزائري وجود أكثر من خمسين ألف لاجئ ليبي، حتى الربع الأول من عام 2017، وصل أغلبهم إلى الأراضي الجزائرية من خلال المعابر الحدودية، ويستقرون في المدن الشرقية الجنوبية، كمدينة ورفلة وأدسوف.
من جهة أخرى، تنامي تجارة السلاح وتهريبه، مع تزايد نشاط وتهديدات الجماعات المتطرفة والإرهابية؛ فقد ساعد انهيار الدولة في ليبيا على نشوء حالة من فوضى تهريب السلاح، بسبب نهب مخازن السلاح الليبي من قِبل الميليشيات الليبية المسلحة، وهو ما أصبح يُهدد أمن المنطقة بأكملها (منطقة شمال أفريقيا مُضافًا إليها منطقة الساحل الأفريقي)، وخاصة الأمن القومي للدولة الجزائرية.
فقد استغلت جماعات تهريب السلاح، الحدود الشاسعة بين الجزائر وليبيا، لتهريب كميات ضخمة من الأسلحة؛ بل إن العديد من التحقيقات، قد أشارت إلى أن الجزائر أصبحت سوقًا لمختلف الأسلحة الليبية الخفيفة، وبأسعار مناسبة.
ولعل أخطر ما في مسألة تهريب السلاح الليبي، هو تسرُّب نسبة منه إلى الجماعات والتنظيمات الإرهابية، التي لا تنشط داخل ليبيا فحسب، ولكن في كامل ربوع الساحل الأفريقي ومنطقة المغرب العربي؛ فقد أصبحت الحدود الجنوبية بين ليبيا والنيجر ومالي والجزائر، “بقعة مفتوحة” تتخذ منها جماعات إرهابية مركزًا للتخطيط وتنسيق أنشطتها وعملياتها.
وكما هو الحال في كافة الدول التي شهدت توترات واضطرابات وصراعات داخلية، أصبحت الفوضى الليبية بمثابة عامل جذب للمقاتلين الأجانب من مختلف الجنسيات، خصوصًا ممن ينتمون إلى تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) كفاعل جديد.
وقد قُدِّر عدد المقاتلين الأجانب، حسب تقرير أعده معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، في الفترة ما بين 2011-2017، بحوالي “2700-3500” مقاتل أجنبي.
من هنا، تشكل لدى صانع القرار في الجزائر تخوُّف كبير من عودة الإرهاب إلى الداخل الجزائري، كما كان عليه الوضع خلال سنوات العشرية السوداء، خاصة في ظل قُرب عدد كبير من مصادر المصالح الاستراتيجية للجزائر من الحدود الليبية، مثل حقول النفط والغاز والشركات العالمية العاملة هناك.
ولعل جزء من هذه المخاوف قد تحقق بالفعل، في 16 يناير عام 2013، عندما شن تنظيم القاعدة هجوما على منشأة عين أميناس للغاز في الجزائر، واستطاع المهاجمون احتجاز عددًا من الرهائن الأجانب والجزائريين، قبل أن تتصدى لهم قوات من الجيش الجزائري؛ غير أن عملية تحرير الرهائن كانت دامية، حيث أسفرت حصيلة العملية عن مقتل 23 رهينة و32 مسلحا إسلاميًا ، كما جاء في بيان أعلنه التلفزيون الحكومي الجزائري.
فضلا عن ذلك، فقد دخل عامل جديد وهو تحول ليبيا إلى حلبة صراع بين القوى الإقليمية والدولية. إذ إن تتابع التدخلات العسكرية من قبل قوى دولية متعددة، مثل فرنسا وروسيا وتركيا، وما يصاحب هذه التدخلات من إرسال مقاتلين غير نظاميين، مثل قوات فاغنر الروسية، والمقاتلين السوريين الذين نقلتهم تركيا لدعم القوات الموالية لحكومة الوفاق الليبية، ومن بعدها حكومة الوحدة الوطنية، له تداعيات سلبية على الأمن القومي للجزائر.
أيضا، تمركز وتأسيس وتطوير قواعد عسكرية من قِبل دول عدة، مثل تركيا وفرنسا والإمارات، وما تواكب مع ذلك من إرسال خبراء عسكريين من هذه الدول، إلى الداخل الليبي؛ كل هذا ساهم في تحول ليبيا إلى ساحة تتصارع فيها القوى الدولية والإقليمية، وهو ما يعني تزايد التهديد الأمني للجزائر، من منظور أن ليبيا تُمثل عمقًا حيويًا واستراتيجيًا للدولة الجزائرية، وما يحدث بداخلها يرتبط بمصالح الجزائر وأمنها القومي بشكل مباشر.
وهكذا، فقد مثل انهيار الدولة الليبية، ومايزال يُمثل، أزمة متراكبة الطبقات بتداعيات إقليمية، تمتد إلى جميع دول الجوار الجغرافي للدولة الليبية بصفة عامة، ومن بينها الجزائر بصفة خاصة. وقد أفرزت الأزمة الناتجة عن انهيار الدولة الليبية، تداعيات سلبية على الأمن القومي الجزائري، سواء على المستوى الأمني والسياسي، أو حتى على المستوى الاقتصادي والاجتماعي؛ إذ ساهمت في انتشار تجارة السلاح على الحدود الليبية الجزائرية، إضافة إلى تزايد نشاط الجماعات المتطرفة والإرهابية في ليبيا، وكذلك مشكلات اللجوء والنزوح من الداخل الليبي إلى الداخل الجزائري. هذا فضلا عن مشكلات التدخلات الخارجية، الدولية والإقليمية، في الأزمة الليبية، وما تمثله من تداعيات سلبية، مضافة إلى سابقاتها، على الأمن القومي للجزائر.