للمرة الأولى منذ اندلاع الصراع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، في منتصف أبريل الماضي، يخرج رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان، من مقر القيادة العامة للقوات المسلحة في الخرطوم، إلى بورتسودان، ومنها إلى خارج السودان، ليجري جولات إقليمية حملت طابعًا سياسيًا ودبلوماسيًا، يُشير إلى محاولة تنسيق موقف عربي وإقليمي قوي، يتصل باتخاذ قرار بشأن ماجريات الصراع ومستقبله.
إذ من اللافت أن الجولات الخارجية لقائد الجيش السوداني قد شملت فضلًا عن قطر التي مثلت محطته الثالثة، ثلاث من دول الجوار السوداني، مصر وجنوب السودان وإريتريا؛ بما يعني أن أحد أبعاد هذه الجولة يتمثل في استثارة تأثير الصراع السوداني على دول الجوار. هذا إضافة إلى جذب الدعم والبحث عن شراكات جديدة، في إطار تأكيد سلطته بوصفه الحاكم الفعلي للسودان.
كما يبدو، فإن ثمة أكثر من دافع، تستند إليه جولات قائد الجيش السوداني الخارجية.. لعل أهمها هي التالية:
أولًا: إظهار سلطة قائد الجيش بصفته حاكما للسودان؛ حيث يبدو أن أحد دوافع جولة البرهان الخارجية، فضلًا عن جولته الميدانية الداخلية التي استبق بها زيارته إلى مصر، تمثلت في كسر العزلة التي أحاطت به خلال الأشهر الماضية، وتأكيد سلطته حاكما فعليا للسودان. إذ ليس من قبيل المصادفة، أن يُصدر البرهان مرسوما دستوريا، يقضي بإلغاء قانون قوات الدعم السريع لسنة 2017، وتعديلاته لسنة 2019، في 7 سبتمبر الجاري، فور عودته من الدوحة إلى السودان.
وكما يبدو، فإن ثمة تفاهمات إقليمية، ودولية، قد ساهمت في النشاط الدبلوماسي الأخير لقائد الجيش، لأجل البحث في المصائر المحتملة للصراع السوداني؛ خاصة أن هذا النشاط جاء تاليا لجولات ميدانية أجراها بها البرهان خارج العاصمة السودانية، حيث تفقد القواعد والمنشآت العسكرية في أم درمان، وسط القتال الدائر بها على مدار أسابيع.
ثانيًا: تنسيق موقف عربي وإقليمي لحلحلة النزاع؛ فمع ما يُشير إليه استمرار الصراع، وتواصل الاشتباكات بين طرفي النزاع في مناطق عدة من البلاد، من عدم قدرة أي طرف على الحسم العسكري؛ يبدو أن قائد الجيش السوداني يسعى إلى استثمار ثقل مصر وقطر، إقليميًا ودوليًا، من أجل إمكانية تنسيق موقف عربي وإقليمي قوي، لوقف الصراع في السودان؛ فضلًا عن جنوب السودان وإريتريا، بوصفهما دولتين من دول الجوار المتداخلة في الأزمة السودانية.
وتُعد زيارات البرهان محاولة ما لدفع هذه الدول إلى التوسط، مع أطراف إقليمية ودولية، لبحث سُبل إنهاء الحرب وبدء حوار سياسي بين طرفي الصراع في السودان؛ خاصة أن جولات البرهان تُلمح إلى أن الزيارات تصب في خانة البحث عن مخرجات سريعة، لتسوية سياسية تساهم في إنقاذ الأوضاع في البلاد.
ثالثًا: ترتيب الأوضاع لإعلان حكومة تصريف أعمال؛ إذ من الواضح أن أحد دوافع جولات البرهان الخارجية، هو محاولة ترتيب الأوضاع لإعلان حكومة تصريف أعمال، يمكن أن تُجنب البلاد الانزلاق في أتون الحرب الأهلية؛ وهو ما تبدّى من خلال تصريحات البرهان، في أعقاب زيارته إلى مصر، حيث أشار إلى أن “الجيش السوداني حريص على وضع حد للحرب في البلاد”، مؤكدًا التزامه بـ”إقامة فترة انتقالية حقيقية تُفضي إلى انتخابات حرة ونزيهة”.
وفي ما يبدو، فإن هذه الحكومة سوف تُباشر أعمالها من بورتسودان، خاصة أن الولايات السودانية الآمنة من الصراع الدائر بين الجيش والدعم السريع، تحتاج إلى مؤسسات مدنية تعمل على تحسين الوضع المأساوي في البلاد، نتيجة الحرب التي تسببت بمقتل نحو خمسة آلاف شخص، ونزوح وتهجير 4.8 مليون شخص في داخل البلاد وخارجها.
رابعًا: جذب الدعم الإقليمي والبحث عن شراكات جديدة؛ وهو ما يمكن ملاحظته من المحطات الأربع، في جولات البرهان؛ حيث إن الدول الأربع تأتي ضمن الداعمين للجيش السوداني، حتى وإن كان هذا الدعم بشكل غير صريح خاصة مصر؛ فضلا عن إريتريا، التي تتزامن زيارتها مع قرارات البرهان بفتح الحدود والمعابر، إضافة إلى تواجد عدد من الكيانات والأحزاب والشخصيات السودانية السياسية ذات الثقل، في أسمرا، لبحث سُبل التوصل إلى “سودنة الحل” للصراع المستمر.
ومن ثم، تأتي زيارات البرهان لتأكيد وإظهار دعم الجيش السوداني، من جانب هذه الأطراف الإقليمية؛ مع محاولة البحث عن شراكات جديدة، وتفعيل بعض البروتوكولات والاتفاقيات الثنائية، سواء في المجالات السياسية أو الاقتصادية، أو في مجالات الأمن والدفاع؛ بما يعني أن البرهان يحاول أن يُمارس دورًا سياديًا، بصفته حاكما للسودان، عبر هذه الجولات الإقليمية.
خامسًا: استثارة قضايا الأمن القومي لدول الجوار؛ حيث يعي قائد الجيش السوداني تمامًا، مدى أهمية وجود دولة مركزية في السودان، خاصة بالنسبة إلى دول الجوار الثلاث، مصر وجنوب السودان وإريتريا؛ وذلك بالنسبة لأمنها القومي ومصالحها الاستراتيجية.
وبالتالي، فمع توجه الصراع في السودان، كما تُشير الأوضاع الميدانية، وأداء طرفي النزاع على المستوى العسكري، نحو معادلة صفرية غير مأمونة العواقب على أمن دول الجوار؛ يأتي أحد أهم الدوافع في نشاط البرهان الدبلوماسي، في استثارة الأمن القومي لدى هذه الدول، لجذب الدعم للجيش، أو على الأقل للوساطة من أجل حلحلة النزاع والذهاب إلى تسوية سياسية.
في هذا السياق، لا نغالي إذا قلنا: رغم أن البرهان، رئيس مجلس السيادة الانتقالي، يُعد الحاكم الفعلي للسودان، على الأقل منذ الإجراءات التي اتخذها في أكتوبر 2021، من خلال حل مجلسي السيادة والوزراء، وإعلان حالة الطوارئ في البلاد؛ إلا أن الجولات الخارجية لقائد الجيش، التي تمثلت حتى اللحظة في أربع محطات خارجية، استهدفت تأكيد شرعيته لدى المجتمع الإقليمي، والدولي، عبر التعامل معه من خلال “فقه الأمر الواقع”.
وبالتالي، فإن التحركات الأخيرة لقائد الجيش السوداني، وإن كانت تستند إلى دوافع متعددة، ومتشابكة، بشأن الداخل السوداني؛ إلا أنها تُقدم أيضا مؤشرات أولية على تفاهمات إقليمية، ودولية، بشأن مستقبل الصراع الدائر في البلاد؛ خاصة وأن استمرار هذا الصراع العسكري، يُعضد من احتمالية تحول القتال إلى حرب أهلية، بما يُنذر بتحول السودان إلى بؤرة قتال وتدافع قبلي جديدة، تكون مقدمة لانجذاب الجماعات المتطرفة والإرهابية نحو البلاد.
لكن رغم ذلك، فإن هذا لا يمنع من وجود رغبة لدى البرهان، تُشكل “محور أساس” في الحصول على الدعم المادي والمعنوي للجيش السوداني؛ وقبول أي مبادرة إقليمية تكون متوافقة مع رؤية المؤسسة العسكرية، في تنحية قوات الدعم السريع من المشهد، أو في الحد الأدنى دمج المتبقي من هذه القوات في الجيش السوداني.