بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري
نقلًا عن موقع عُمان
مرت أمس الذكرى الـ ١٠٠ لميلاد الأستاذ محمد حسنين هيكل «٢٣ سبتمبر ١٩٢٣ – ٢٣ سبتمبر ٢٠٢٣». خلال أربعة وسبعين سنة من حياته المهنية المديدة النشطة ١٩٤٢ – ٢٠١٦ وبعد سبع سنوات ونصف على رحيله مازال الأستاذ هيكل كما كان في حياته بكتبه وفيديوهاته ومقولاته من أكثر الشخصيات العربية طلبا على محركات البحث في الانترنت وظل ككل – من صنع فرقا وترك أثرا باقيا في الحياة – هدفا إما للهجوم الضاري من الخصوم أو المديح الزائد من المحبين.
الظاهرة الأهم هو أنه ما زال بعد موته الصوت والقلم الأكثر افتقادا سواء ممن يحبونه أو ممن يكرهونه. بات الناس يتطلعون يمنة ويسرى لمرجعية عربية مثله تتوافر لديه من المعلومات ما ليس لديهم، ومن زاد الحكمة والتجربة العريضة ما يحل به ما استغلق عليهم من ألغاز.. فلا يجدونه ولا يجدون بديلا يملأ جزءا من الفراغ الذي تركه في ساحة التفكير الاستراتيجي العربي!!. وضع لخصه يوما عبقري الرواية العربية نجيب محفوظ فقال: في كل عصر نتساءل.. أين هيكل ليقول لنا القول الفصل؟».
**
في هذا المقال في مئوية الأستاذ إضاءة موجزة على جوانب من شخصيته الاستثنائية سمحت بها محاولة اقتفاء محبته الجارفة لشخصيتين عربيتين وما تكشفه من اتفاق في المصائر مع هاتين الشخصيتين. فعلى خطى أكثر شخصيتين أحبهما هيكل في السياسة والشعر يمكن تلخيص حاله الآن بعد سبع سنوات ونصف على الرحيل بجسده في مقولة «مالئ الدنيا وشاغل الناس» وهي المقولة التي لخص بها ابن رشيق قبل قرون ظاهرة المتنبي أو ظاهرة كل شخص يتحدى «منجزه» الزمن فيعيش ويزداد قيمة بعد موته. لم يحب الأستاذ هيكل شخصيتين في حياته مثلما أحب جمال عبد الناصر في السياسة والقيادة ومثلما أحب أبا الطيب المتنبي في الشعر.
ابدأ بالأسهل ولكن الأقدم في التاريخ وهو أبو الطيب المتنبي ( ٩١٥ – ٩٦٥ م) أشعر من خط حرفا بالعربية.. لم يسبقه شاعر ولم يلحقه شاعر.
يقول محمود درويش وهو واحد من أعظم شعراء العرب المحدثين استبدل شعري كله بشطر من بيت للمتنبي هو «علي قلق كأن الريح تحتي».
جمع هيكل بالمتنبي ما هو أكثر من الشعر وما هو أكثر من إعجاب متأخر بمتقدم وخلف بسلف. كان كلاهما موهبة – قنبلة مسلحة بمعرفة عميقة تجلت كأعظم ما يكون التجلي في صياغة المعنى بأسلوب فريد.
كان المتنبي أديبا مسكونا بالسياسة وكان هيكل سياسيا مسكونا بالأدب. كان كلاهما يعرف حجم موهبته ويعتز أو يغتر بها وكأن لسان حالهما بيت شعر لمحمود درويش يقول فيه: أنا لا أشبه سواي// وأنا للمرايا شمس».
كان كلاهما نموذجا لارتباط المثقف بالحاكم أو القائد السياسي صاحب الشعبية والمعارك الكبرى من أجل الأمة في عصره (ثنائية سيف الدولة الحمداني – المتنبي) قابلتها (ثنائية عبد الناصر – هيكل).
اتفق أبو الطيب وأبو علي اسم الكنية الذي كان يناديه به خلصاؤه من الشوام (الدكتور علي هو الابن الأكبر لهيكل) في اتساع ثقافتهما فقد تأكد التهام وهضم واستيعاب أبي الطيب لمعظم المنتج الفكري الذي كان قد ترجم للعربية عن الحضارة الاغريقية، أما هيكل فمن المعروف أن إجادته للقراءة والكتابة بالانجليزية كأبنائها وإجادته للعربية – لحفظه القرآن كاملا عند سن العاشرة تقريبا وحفظه آلافا من أبيات الشعر في سن مبكرة.. وقراءته آلاف الكتب جعله من أهم المفكرين العرب في عصره. المدهش أنه ورغم وجود ألف وسبعة أعوام بين ميلاد كل منهما فإنه وكما صارت أبيات المتنبي حكمة تتناقلها الأجيال صارت مقولات هيكل كذلك، فكما يحفظ الناس بيت المتنبي: إذا اتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي بأني كامل، يحفظ الناس لهيكل مقولات مثل: وقائع التاريخ الكبرى عائمات جليد، طرفها ظاهر فوق الماء، وكتلتها الرئيسية تحت سطحه، ومن يريد استكشافها عليه أن يغوص».
وإذا كان المتنبي هو شاعر العربية الأول ونجيب محفوظ كاتب العربية الأول في الرواية فإن هيكل هو كاتب العربية الأول في التحليل السياسي.
جمال عبدالناصر.. القائد والصديق والشريك
في السياسة والقيادة فإن هيكل لم يحب ويرتبط بأحد كما ارتبط بقائده وصديقه جمال عبد الناصر في متوالية الفكر والسياسة والدور التاريخي.
تفاعلا وامتزجا بحيث لا تكاد تعرف أين يبدأ أولهما وأين ينتهي آخرهما. وإلى مسار من مسارات ناصر- كل بقدره وقدره – سار هيكل أيضا في ظاهرة استمراره في مماته كما في حياته على حالة (مالئ الدنيا وشاغل الناس).
فبعد ١٠٥أعوام على ميلاده و٥٣ على رحيله و71 عاما على ثورته مازال جمال عبدالناصر أهم شخصية عربية في القرن العشرين باعتراف خصمين لدودين له دون اتفاق «د. محمد أبو الغار الطبيب الليبرالي الشهير و د. خالد فهمي المؤرخ الشهير». إعلامي مصري معروف- طالما هاجم عبد الناصر- لخص في حلقة تلت ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ مركزيته في المستقبل العربي وليس في الماضي بإشارته إلي أن مصر لن تستطيع التقدم نحو المستقبل دون أن تحدد موقفها من الشخص الوحيد الذي رفعت الناس صوره في الميادين.. ودون أن تحدد موقفها من سياساته الاجتماعية والخارجية التي باتت تمثل ما يمكن وصفه «بالنموذج المعياري» الذي يقيس عليها كثير من الناس مواقفهم من أداء السياسة في مصر والمنطقة.
لم ينقطع الهجوم الساحق على شخص عبد الناصر ومشروعه دقيقة وكذلك لم ينقطع الدفاع عنه دقيقة.
تباعد الأيام والوقائع والصراعات الهائلة على المصالح بين الفئات الاجتماعية المتميزة المدعومة من من الغرب التي حاربها عبد الناصر مع الطبقات التي ناصرها وسعى لرفع الظلم عنها، سمح بتنامي الجدل حول التجربة والرجل بعد وفاته وليس انحسارها فلا أنصاره نقصوا ولا أعداءه تراجعوا.
ومع إتاحة قدرات وسائل التواصل الاجتماعي واسعة الانتشار لأجيال جديدة حجبت عنها الوثائق ومناهج التاريخ الصحيحة تأجج الصراع أكثر فباتت داحس وغبراء جديدة.. حربا منصوبة ليل نهار. ينسى السجال الأيديولوجي المرير أن الرجل كأي زعيم سياسي له إيجابياته وله سلبياته لخصها شاعر العامية الشهير أحمد فؤاد نجم (عمل حاجات معجزة وحاجات كتير خابت).
السجال نفسه يحدث بالضبط للأستاذ هيكل ولكن كصحفي وحارس للتاريخ العربي وشاهد وثيقة دامغة وليس شاهد زور عليه. أغضبت – ولا تزال -شهادته للتاريخ مصالح كبرى في الإقليم والعالم.
فعلى عكس ما أمل حساد هيكل و مبغضوه من أن الاهتمام به سينحسر تدريجيا فإن العكس هو ما حدث ففي السنوات السبع المنصرمة منذ رحيله ربما لم تتكرر عبارة عند الناس عندما تدلهم الأوضاع في العالم العربي مثل عبارة أين هيكل؟
ومازالت كتبه التي تربو عن الأربعين كتابا من الكتب الأكثر مبيعا (المتاح منها). أما اليوتيوب والفيس بوك وغيرهما فقد جعلا مقاطع برنامجه الشهير على الجزيرة (تجربة حياة) أو مقابلاته متاحة للأجيال العربية الجديدة على مدار الساعة.
يتفق هيكل مع أبي خالد وأبي الطيب اللذين أحبهما -كل بقدر- في تحدي الزمن وفي الاستعصاء على آفة النسيان.
لكن مقاربة المتنبي – سيف الدولة الحمداني/ وهيكل – عبد الناصر أو ما يسميها البعض علاقة المثقف بالأمير كما التقت في كثير فإنها تختلف في كثير ليس فقط في اختلاف السياق التاريخي ولكن في نظرة المثقف في كل منهما للقائد الذي صحبه.
المتنبي وهيكل كانا يعرفان قدر نفسيهما ولكن الأول لم يمتزج فكريا مع قائده وبالتالي كان قادرا على الافتراق حتى في حياتهما نفسها (انفصل المتنبي عن سيف الدولة وهو حي وانتقل إلى مصر والعراق) بينما لم ينفصل هيكل عن ناصر في حياته، أما بعد مماته فكان دفاعه عنه صلبا وحماسته للمشروع متوقدة «لمصر لا لعبد الناصر، عبد الناصر والعالم..». معركة دفع ثمنها السجن بقرار من الرئيس الراحل أنور السادات.
كان هيكل يرى عبد الناصر بين مقولتين الأولى للمفكر القومي المعروف ساطع الحصري وصف فيها عبد الناصر «هذا رجل اتسعت همته لآمال أمته» والثانية صاغها هيكل نفسه «إن جمال عبد الناصر هو الحقيقة السياسية في التاريخ العربي الحديث».