احتلت فكرة المجتمع الجديد مكانا مركزيا في المنظومة الفكرية والفلسفية لمعظم فلاسفة ورواد الفكر الاجتماعي على التاريخ الإنساني، الذين سعوا إلى تقديم تصورات جديدة لمجتمع مثالي تكون بديلة عن تصورات المجتمع القائم، مجتمع تنتفي فيه كافة أشكال استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، وتختفي منه شرور الواقع، ويتحرر الإنسان فيه من مختلف أشكال القلق، من الشكل الميتافيزيقي إلى الشكل الاجتماعي، ويتم فيه أيضا وضع حد نهائي للبواعث والقوى اللاعقلانية التي تسيطر عليه والتي يعجز عن ضبطها أو حتى إدراكها، وبذلك تتحقق أحلام الإنسانية بالسعادة والكفاية والعدل.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه علينا ”هل اليوتوبيا هروب من الواقع أم إعادة صياغة لواقع مؤلم؟ منذ أن سطر أفلاطون أول يوتوبيا في التاريخ الإنساني في كتابه “الجمهورية”، مرورا بـ الفارابي الذي بشّر بمدينته الفاضلة – وإن كان مصطلح يوتوبيا لم يظهر إلا مع توماس مور- وحتى العصرِ الحديث، يطرح الفلاسفة اليوتوبيا بشروط ومقومات مختلفة، غير أن العنصر المشترك فيها جميعا أنها كلها وليدة عصرها، فهي انعكاس للظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وقد تجلّت اليوتوبيا في الشرق كما في الغرب، لكن تحت اسم المدينة الفاضلة.
ولطالما تساءل الإنسان: هل اليوتوبيا فكر يمكن تحقيقه، أم أنه واقع افتراضي يحاول فيه الفلاسفة الإطلال علينا من فوق برج عاجي لا يمت إلى الواقع بصلة؟ (ماريا لويزا برنيري، المدينة الفاضلة عبر التاريخ، (1950.
– تمهيد:
جاء الإسلام، شريعة ودينا وسطيا له فكر اجتماعي واقتصادي وسياسي وثقافي مميز، وهذه السمة المميزة للأديان السماوية التي تهدف إلى تغيير نمط الفكر البشري، لما فيه الخير والصلاح. فلقد ركز الإسلام بوصفه دينا سماويا على ضرورة تغيير العادات والتقاليد والنظم الجاهلية البالية، ويطرح للعقل البشري البدائل الممهدة لطريق تخلص هذا العقل من الشرور والآثام، وهذا بالفعل ما ظهر بوضوح في طبيعة الدين الإسلامي وتركيزه على وضع أسس جديدة للنظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، التي تقوم على المساواة والتكافل والعدالة، تحديد الحقوق والواجبات، ووضع نظم محددة لأساليب العقاب والجزاء.
كما ناقش قضايا هامة تشغل اهتمامات العقل البشري؛ حتى يأتي يوم القيامة مثل: الفقر والمساواة والعدالة والتكافل الاجتماعي والملكية العامة والخاصة والعمل والإنتاج وتوزيع الثروة والحرية وغيرها من القضايا الهامة. وعلى العموم يمكن إرجاع الفكر الاجتماعي الإسلامي إلى الجذور التالية:
- الموروث الاجتماعي، وما كان عليه المجتمع العربي قبل ظهور الإسلام من بنية اجتماعية.
- التعاليم التي جاء بها الدين الإسلامي، لا سيما ما يخص منها الجانب الاجتماعي من حياة أفراد المجتمع.
- ما تُرجِم إلى اللغة العربية من تراث أجنبي (يوناني) خاصة خلال القرنين الثامن والتاسع الميلاديين (الثاني والثالث الهجريين).
وفي هذا السياق سنحاول مناقشة الأفكار الاجتماعية عن الفارابي (ذات الأبعاد الدينية والفلسفية) باعتباره من أهم المفكرين الإسلاميين الذين ظهروا في العصور الوسطى، وكيف ساهمت أفكاره في ازدهار الفلسفة الإسلامية.
يعتبر الفارابي الفيلسوف الملقب بالمعلم الثاني، أول من تبلور لديه مفهوم متكامل للمدينة الفاضلة من منظورٍ عربي إسلامي، وهو موضوع مقالنا الحالي.
وسنحاول من خلاله تتبع ملامح التفكير الاجتماعي عند الفارابي من خلال كتابه آراء أهل المدينة الفاضلة الذي سعى من خلاله أن يصوغ صورةً مُثلى للتعاون بين أفراد المجتمع من أجل مدينةٍ فاضلةٍ يسود فيها العدل، وينعم سكانها بالسعادة، حيث تمكنهم فضائلهم من الصمود في مواجهة المدن الجاهلة.
في بداية الأمر من هو الفارابي؟ هو أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان بن أوزلغ الفارابي. ولد في مدينة فاراب 259هـ / 870 م في بلاد ما وراء النهر في إقليم تركستان (كازاخستان حاليا) وتوفي في دمشق 339 هـ / 950 م.
يعتبر الفارابي واحدا من مؤسسي الفلسفة العربية والإسلامية. ويُلقّب بالمعلم الثاني؛ لأنه تبنّى الكثير من آراء أرسطو المعلم الأول. كما يمثل الفارابي الاتجاه المثالي (اليوتوبيا) في الفكر الإسلامي. ويؤكد ما ذهب إليه أرسطو من أن الإنسان مدني بطبعه وأن الاجتماع الإنساني يعتبر ضرورة لإشباع حاجات الأفراد. وعلى العموم تتمثل الإسهامات السوسيولوجية للفارابي من خلال كتابه “آراء أهل المدينة الفاضلة”، حيث يتضمن ذلك الكتاب العديد من آرائه الاجتماعية.
صحيح أن آراء الفارابي الاجتماعية قد اختلطت لديه بالكثير من الآراء الفلسفية والفقهية.. وخصوصا ما اتصل منها بالفلسفة اليونانية والإسلامية، إلا أن هذه الآراء إن دلت على شيء، إنما تدل على اجتهاد سوسيولوجي مبكر اتجه نحو دراسة المجتمع والعمل على صلاحه وفقا لأسس مثالية تزاوجت خلالها الفلسفة بالدين، ومثلت آراء أفلاطون حجر الزاوية فيها. من أهم مؤلفاته ما يلي:
– آراء أهل المدينة الفاضلة .
– كتاب الموسيقى الكبير.
– الجمع بين رأي الحكيمين (حاول فيه التوفيق أفكار أفلاطون وأرسطو).
– التوطئة في المنطق.
– السياسية المدنية.
– إحصاء العلوم والتعريف بأغراضها.
– جوامع السياسية.
– عيون المسائل.
– ما يصح وما لا يصح من أحكام النجوم.
– مقالة في أغراض ما بعد الطبيعة لأرسطو طاليس.
– ملامح المدينة الفاضلة عند الفارابي محاولة في التفكير الاجتماعي:
أوضح الفارابي من خلال إيمانه بالكثير من آراء أفلاطون وأرسطو، أن الاجتماع الإنساني ضروري، وذلك راجع إلى أن الإنسان مفطور على حاجته إلى الاجتماع الإنساني والتعاون “وكل واحد من الناس مفطور على أنه محتاج في قوامه وفي أن يبلغ أفضل كمالاته إلى أشياء كثيرة لا يمكنه أن يقوم بها كلها وحده، بل يحتاج إلى قوم يقوم له كل واحد منهم بشيء مما يحتاج إليه” ولا يتأتى ذلك إلا باجتماعات جماعة كثيرة “يقوم كل واحد ببعض ما يحتاج إليه قوامه”.
كما تناول الفارابي أشكال التجمع الإنساني وبيّنها على أساس فريد، حيث تتصف الأولى منها بأنها اجتماعات إنسانية كاملة، والثانية منها بأنها غير كاملة.
سعى الفارابي إلى ترتيب المجتمعات الكاملة تدريجيا إلى ثلاثة مستويات تتراوح ما بين العظمى والوسطى والصغرى، وارتكز في تقسيمه لأشكال التجمعات الإنسانية على حجم كل منها ومقدرته على سد وإشباع احتياجات أعضائه.
ويرى الفارابي أن المجتمعات العُظمى تتمثل في اجتماعات الجماعة كلها على المستوى الإنساني في المعمورة، أما المجتمعات الوسطى فيمثلها اجتماع أمة على المستوى القومي في جزء من المعمورة، أما المجتمعات الصغرى، فتمثل اجتماع أهل مدينة على المستوى الإقليمي أو المحلي وفي جزء من مسكن أمة.
أما عن المجتمعات غير الكاملة فيصنفها الفارابي أيضا إلى ثلاثة مستويات أكملها اجتماع أهل القرية وأهالي الحلة، الجيرة أو الحي، ويليها في المرتبة الثانية اجتماع في السكة “الشارع”، أما المستوى الثالث للمجتمعات غير الكاملة فيمثله في رأي الفارابي اجتماع في المنزل.
وفيما يتعلق بطبيعة المدن عند الفارابي نجد أنه قد قسّمها إلى مدن فاضلة، أو غير فاضلة. والفيصل بين هذه وتلك كما يقول الفارابي أن يكون هدف الاجتماع الإنساني خلالها هو التعاون على الأشياء التي تنال بها السعادة، وإذا ما تحققت تلك السعادة القائمة على الحقيقة، فتكون تلك “هي المدينة الفاضلة”.
1- المدينة الفاضلة: شبهها الفارابي بأعضاء الجسد الواحد الكامل والصحيح، حيث تتعاون كل الأجزاء لحفظ الحياة واستمرارها تحت رئاسة عضو أساسي وهو القلب الذي تعاونه بعض الأعضاء، ومنها ما يدانيه مرتبة وما يقل عنه مراتب، كذلك حال المدينة الفاضلة، تتكون من أجزاء مختلفة ومتمايزة ويشكل الرئيس رأس هذه المدينة وزعيمها ومصدر الحياة فيها.
وتكون المدينة فاضلة – حسب الفارابي- إذا ما أدّى كل فرد فيها دوره كما يجب، فضلا عن شيوع علاقات التوافق والتعاون والانسجام، بين مختلف هيئاتها.. علاوة على ضرورة أن يتوافر في رئيس المدينة الفاضلة العديد من الشروط منها المطبوع (بالوراثة) ومنها المكتسب.
وحدد الفارابي الشروط التي يجب أن تتوافر فيمن يتولى رئاسة المدينة الفاضلة في اثني عشر شرطا أو فضيلة على حد تعبير الفارابي، منها ست فضائل مطبوعة أو موروثة ومنها ست أخرى تعود إلى الملكة الإرادية أو الاكتساب. وعن الصفات الموروثة في الرئيس، فيجب أن يكون:
أ- تام الأعضاء.
ب- وأن يكون سليم العقل، وسلامة العقل تعني كما حددها الفارابي.
ج- جودة الفهم وجودة الحفظ وجودة الفطنة والذكاء.
د- وأن يكون حسن العبارة.
ه- محبا للعلم وعلى خلق حميد ومحكات الخلق الحميد عند الفارابي تتمثل في: عدم الشراهة باللذات الدنيوية، حب الصدق، عفة النفس، الزهد في أعراض الدنيا، وحب العدل.
و- وأخيرا قوة العزيمة مع الجسارة والإقدام.
أما عن الصفات المكتسبة، فهي أن يكون حكيما فيلسوفا لتُعينه حكمته وفلسفته على تسيير أمور مدينته الفاضلة. وأن يكون عالما بالشرائع والسنن والسِيَر، وأن يكون قادرا على الاستنباط والقياس ليمكنه أو ليفيده ذلك عند الاستفادة من تراث السلف، وأن يكون قادراً على الاختراع حتى يبتكر من الشرائع ما يعينه على صلاح مدينته، وأن تكون لديه القدرة على تعليم الناس في مدينته، وعلى الرئيس أخيرا أن يكون على قوة بدنية تمكنه من أن يكون القائد الأعلى للمحاربين في مدينته.
ولكن هل يشترط أن يكون الرئيس واحدا؟ والجواب عند الفارابي أن ذلك مستحب؛ لكنه ليس ضروريا؛ لأن الشروط إن لم تتوافر في واحد. وتوافرت في اثنين، صارا رئيسين، وإن لم تتوافر في اثنين وتوافرت في ثلاثة أو حتى في جماعة، صارت لها الرئاسة، المهم هو توافر تلك الشروط، فيمن يكون أو يكونون رأساً لتلك المدينة الفاضلة.
2- المدينة غير الفاضلة: وهي بالضرورة مدينة أو مدن لا تتوافر لها نفس مواصفات المدن الفاضلة سواءً من حيث طبيعة التكوين أو من حيث الرئاسة، ولكن الفارابي قسّم المدينة غير الفاضلة، إلى خمس مراتب أساسية تتراوح ما بين المدن المستقلة أو الكاملة وهي مدن الجاهلية والمدن الفاسقة والمدن المتبدلة والمدن الضالة، حتى يصل إلى الثوابت، أي النتوءات الشاذة التي تبرز خلال المدينة الفاضلة ذاتها.
وعلى كل حال فإن الفارابي قد رتّب المدن غير الفاضلة، بحسب درجة بُعدها عن معرفة السعادة إلى خمس مراتب، والسعادة هنا هي سعادة العقل وفعل الخير والقرب من الله.
أ- فأهل مدينة الجاهلية لم يعرفوا السعادة يوما، ولم يعرفوا من الخيرات إلا الحِسّي منها، وعاشوا في بوهيمية بدنية، ولم يعرفوا الله ولا تقربوا إليه سبحانه.
ب- أما أهل المدينة الفاسقة، فهم يعرفون السعادة والخير والله، ولكن معرفتهم لا تتعدى حدود المعرفة النظرية، بينما أفعالهم هي نفس أفعال أهل مدينة الجاهلية. والخلاصة أنهم يعملون بغير ما يعتقدون.
ج- أما أهل المدينة المتبدلة، فكما هو واضح من الاسم، فقد بدّل الله بهم من حال إلى حال. أي كانوا أهل مدينة فاضلة، ثم انحرفوا نتيجة لشيوع تيارات شاذة وانحرافات، بدّلت معتقداتهم وأفعالهم، وحولتهم من الفضيلة إلى الرذيلة.
د- أما المدينة الضالة، فأهلها أهل ضلال وخداع وغرور، لا يؤمنون بالله ولا بالعقل ولا بالسعادة، وقد ضيعتهم الأفكار الفاسدة.
ه- وأخيراً نصل مع الفارابي إلى ذلك النتوء أو الخلل الذي قد يصيب المدينة الفاضلة ذاتها، وقد أطلق عليه الفارابي مصطلح “النوابت” وقد شبهها الفارابي بالأشواك أو الحشائش التي تنبت وسط الزرع، وتضره بغير أن تنفعه، ولا شك أن تلك “النوابت” الشاذة إن هي إلا بؤر للجريمة والفساد داخل مجتمع المدينة الفاضلة وغيرها من المدن.
وفي سياق متصل تناول الفارابي من خلال حديثه عن المدينة الفاضلة مقوِّمات وعوامل توحّد المجتمع وصنفها في عوامل جنسية عرقية، كوحدة الجنس والسلالة والانحدار من أب واحد، وعوامل ثقافية كالاشتراك في المعتقدات أو اللغة أو اللسان، وعوامل طبيعية كالاشتراك في الصقع أو البيئات الطبيعية، وعوامل اجتماعية كالاشتراك في النسب المصاهرة، وأخيراً عوامل نفسية كتشابه الخلق والشيم الطبيعية.
كما تعرّض الفارابي للسلطة من حيث نشأتها ووظيفتها في المجتمع، واعتبرها قانونا ينهض في المجتمع ليمنع العدوان، والغصب، والظلم، وليحقق العدل، وضرب لذلك العديد من الأمثلة من واقع الحياة الاجتماعية للمجتمع وخصوصا ما تعلّق منها بعمليات البيع والشراء والأمانة في رد الودائع والكف من الجور والظلم. وأبرز الفارابي كذلك أهمية الخوف الناتج عن السلطة ودورها في استمرار التزام الناس بالخصال الحميدة.
وفي النهاية ناقش الفارابي العوامل الموحدة للمجتمع، وتعرض أيضا للعوامل التي تؤدي إلى تحلله وفنائه، ولعل أهم عامل في فساد المجتمعات أو المدن كما أوضحه الفارابي هو بُعدها عن أسباب الفضيلة وعدم قدرتها على تحقيق السعادة بالمفهوم الذي قصد إليه الفارابي، علاوة على عدم توافر الرئيس القادر على القيادة والريادة، فضلا عن غياب رابطة القهر والقوة التي تمثلها السلطة.
خلاصة القول، اعتبر الفارابي في كتابه “آراء أهل المدينة الفاضلة” أن الغلبة والقهر هما من خاصيات المدينة الضالة، أي “مدينة التغلب”، التي يقصد أهلها أن يكونوا قاهرين لغيرهم وممتنعين عن أن يقهرهم غيرهم، ويكون كدهم اللذة التي تنالهم من الغلبة فقط.
والسياسة عن الفارابي لا تقترن، بالضرورة بالعنف. ففي المدينة الفاضلة يسود العقل الكامل والقيم المُثلى، وتكون السياسة فيها حكيمة وقويمة وتهدف إلى إسعاد الإنسان.
ومن خصال رئيس هذه المدنية كما بيننا أعلاه “أن يكون بالطبع محبا للعدل وأهله ومبغضا للجور والظلم وأهله يعطي النصف من أهله ومن غيره ويحدث عليه، ويؤثر من حل به الجور مؤاتياً لكل من يراه حسنا وجميلا، ثم أن يكون عادلا غير صعب القياد، ولا جموحا ولا لجوجا، إذا دعي إلى العجل، بل صعب القياد إذا دعي إلى الجور وإلى القبيحة”.
ومن خلال ما تقدم يمكننا تقييم التفكير الاجتماعي عند الفارابي، من خلال التركيز على النقاط التالية:
1- كان شديد الإعجاب والتقليد لأفلاطون سواء من حيث الأفكار المعروضة أو المنهج المستخدم في الاستدلال المعروف باسم “تحليل المعاني”، وهي طريقة طبقها كل من أرسطو وأفلاطون وتعرف بالطريقة الأرسطو طاليسية.
2- شكل اتجاها متميزا في الفكر السوسيولوجي الإسلامي وهو ما يعرف بالاتجاه المثالي أو اليوتوبي، ومن أبرز عيوب ذلك الاتجاه أنه ليس ممكن التطبيق على الإطلاق لا في ظل المجتمع الإسلامي ولا في ظل غيره من المجتمعات أو الأمم.
3- كان الفارابي مدفوعا للمغالاة في مثاليته، كرد فعل للحياة المضطربة اجتماعيا وسياسيا وأخلاقيا التي عايشها، والتي لم يجد معها الخلاص إلا بالرجوع إلى المثالية التامة، في مدينة فاضلة على رأسها حاكم أو رئيس له من صفات الأنبياء أو الملائكة أكثر مما له من صفات الناس العاديين البشر.
4- على الرغم من كل ما قيل عنه وعن فلسفته الاجتماعية. فإنه بغير شك سعى لأن يعود المجتمع الإسلامي إلى سابق مجده صفاءً وفضيلةً وسعادةً من خلال ما أرساه من قواعد المدينة الفاضلة، ولعله أول من دق ناقوس الخطر؛ حتى يتنبه ولي الأمر ويتخذ أولى خطوات الإصلاح.
5- أرسى دعائم الاتجاه العضوي السوسيولوجي عندما شبّه المجتمع بالكائن الحي؛ وأقام مماثلة عضوية بين وظائف أعضاء الإنسان ككائن حي، وبين وظائف وحدات المجتمع البشري.
6- أثر الفارابي في الفكر الاجتماعي الإسلامي إلى حد بعيد. ويكفيه فخرا أنه لُقّب بالمعلم الثاني بعد أرسطو، وأن تلاميذه نهجوا على منهجه لفترات طويلة عمقت ذلك الاتجاه اليوتوبي ونمته.
7- يعد الفارابي أول من أثار الانتباه إلى وجود المجتمعات الهامشية أو العشوائية وبيّن خصائصها وأسباب وجودها، ونبه إلى خطورتها وشرح كيفية مواجهتها وتحجيمها درءا لمخاطرها ليس فقط على نفسها بل على مجتمعاتها الأصلية وكذلك على المجتمعات الأم.
وفي المجتمعات المعاصرة يظهر النقد الاجتماعي على السطح عندما يعيش المجتمع أزمة عميقة، فيقوم (النقد) بممارسة وظيفته حتى يتمكن المجتمع من تجاوز الأزمة، فيكون له دوره المؤثر في تشخيص الواقع الاجتماعي في مختلف أبنيته، حتى يتسنى للقائمين في المجتمع من معرفة معوقات تقدمه، بهدف تغيير الواقع الاجتماعي إلى ما هو أفضل. فالفكر بطبيعته فكر حر حتى في أشد الظروف الاجتماعية والسياسية قهرا وتسلطا. والعقل بطبيعته يسأل قبل أن يجيب، ويتساءل قبل أن يستلهم، ويتشكك قبل أن يحكم. فالنقد هو مفتاح الفكر والمجتمع، وشرط حركة التاريخ. يحمل لواء المعارضة، والتشكك في الوضع القائم في المعرفة والسلوك.
إن النقد البنّاء هو النقد الذي يفترض مسبقا وجود معايير تكون حاضرة في الواقع الاجتماعي ذاته، أي معايير تحكم من خلالها على الواقع الاجتماعي ذاته، وتتساءل إذا ما كانت تلبي سبب وجودها وتفي به، وبذلك يكون هدف النقد أن يشد الواقع الاجتماعي نحو ما ينبغي أن يكون عليه.
خلاصة القول، سعت المذاهب الفكرية والفلسفية ذات الطابع النقدي المشبع بالنزعة الإنسانية إلى تصور أسس المجتمع الإنساني الجديد، الذي ينتفي فيه ظلم الإنسان لأخيه الإنسان بالقضاء على جميع مظاهر الاستغلال والاغتراب الإنساني التي تعتري المجتمعات الإنسانية المعاصرة، مما يؤدي إلى الإعلاء من شأن الإنسان كفرد والإنسانية كمفهوم سامي تحقيقا للأهداف والغايات، التي قامت من أجلها الاتجاهات النقدية (الكلاسيكية، والحديثة، والمعاصرة) في الدفاع عن حقوق الإنسان في العيش الكريم، الذي يحفظ كرامته وكينونته بغض النظر عن انتماءاته، الإيديولوجية، والمذهبية، والطبقية، والطائفية، لأن مفهوم الإنسانية مفهوم لا يتجزأ. فهل ستتحقق فكرة المجتمع الجديد يوما ما على أرض الواقع الاجتماعي “الفردوس الأرضي المنتظر”؟
– المراجع المعتمدة:
1- أبو نصر الفارابي: كتب آراء أهل المدينة الفاضلة، تقديم وتعليق ألبير نصري نادر، دار المشرق، بيروت، ط2، 1968.
2- أبو نصر محمد الفارابي: آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، ب. ط، 2016.
3- علي عبد الواحد وافي: المدينة الفاضلة للفارابي، نهضة مصر، القاهرة، ط1، بدون تاريخ.
4- ماريا لويزا برنيري: المدينة الفاضلة عبر التاريخ، ترجمة: عطيات أبو السعود، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، ط1، 2022.
5- نبيل عبد الحميد عبد الجبار: تاريخ الفكر الاجتماعي، دار دجلة ناشرون وموزعون، ط1، 2009.
6- صلاح مصطفى الفوال: المدخل إلى علم الاجتماعي الإسلامي، دار غريب، القاهرة، ط1، 2000.
7- حسام الدين فياض: فكرة المجتمع الجديد… الخلاص النهائي للإنسان، صحيفة العرب الدولية، العدد: 12327، لندن، الأحد 13/02/ 2022.
8- إبراهيم الحيدري: سوسيولوجيا العنف والإرهاب، دار الساقي، بيروت، ط1، 2015.
9- حسام الدين فياض: مقالات نقدية في علم الاجتماع المعاصر (النقد أعلى درجات المعرفة)، دار الأكاديمية الحديثة، أنقرة، ط1، 2022.