لنا أن نؤكد بداية، على ما وصلنا إليه في حديثنا حول “مفهوم السُنَّة.. والفارق بين التواتر والإسناد”، من أنه إذا كان سبحانه وتعالى قد جعل لنا في الرسول الكريم “أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ”؛ فلابد لنا أن نجعله “أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ” لنا.. فهذا ليس اختيار، بقدر ما هو امتثال لقوله سبحانه: “لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا” [الأحزاب: 21].
لكن السؤال: كيف.. كيف لنا أن نجعل من رسول الله عليه الصلاة والسلام “أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ”؟
ولعل محاولة الإجابة، تتوقف على دلالة “أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ” في آيات التنزيل الحكيم.
بداية، “الأسوة” بضم الهمزة وكسرها لغة، تعني الحالة التي يتلبسها الإنسان عند اتباعه لآخر، وتُطلق على الميزة التي من حقها أن يؤتسى بها، وعلى نفس الشخص المؤتسى به؛ وبكلمة، هي التأسّي والاقتداء، ومن ثم فإن لها معنى المصدر لا الصفة.
أضف إلى ذلك -وتأكيدًا عليه- أن هناك عدد من الألفاظ المشتقة من لفظ “أُسْوَةٌ”، في التنزيل الحكيم، تؤشر إلى النهي عن المكروه وهو “الحزن” أو “الندم”، مثل لفظ “تَأْسَوْا” في قوله سبحانه وتعالى: “لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ” [الحديد: 23].. وأيضًا، لفظ “تَأْسَ” الذي ورد مرتين في التنزيل الحكيم، في قوله سبحانه: “قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ” [المائدة: 26]؛ وفي قوله تعالى: “قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ” [المائدة: 68].
إلا أن هناك اختلاف، من المنظور اللساني، بين لفظي القدوة والأسوة؛ فالأخير قد يُشير إلى القدوة السيئة وليست الحسنة فقط؛ بما يعني أن مصطلح “أُسْوَةٌ” يحمل دلالة المحمود والمكروه معًا، ولذلك ورد لفظ “حَسَنَةٌ”، في الآية الكريمة [الأحزاب: 21]، كصفة ملازمة للمصدر “أُسْوَةٌ”.
أما عن لفظ القدوة، فإنه يحمل دلالة المحمود فقط، ويؤشر إلى النموذج الصالح وليس السيِّئ؛ كما في قوله سبحانه: “أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ٭ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ” [الأنعام: 89-90].. إذ يؤكد الأمر الإلهي، المُتمثل في التعبير القرآني “فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ”، ما أشرنا إليه عن دلالات القدوة.
هذا عن الفارق بين الأسوة والقدوة؛ فماذا عن دلالات “أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ”، في السياق القرآني؟
ورد اصطلاح “أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ” في مواضع ثلاثة في القرآن الكريم؛ مرة في سورة “الأحزاب”، ومرتان في سورة “الممتحنة”.
يقول سبحانه وتعالى: “قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ” [الممتحنة: 4].. ويقول سبحانه: “رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ٭ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ” [الممتحنة: 5-6].
في سياق هذه الآيات الكريمات، نلاحظ بوضوح كيف أن الله سبحانه وتعالى يجعل من إبراهيم عليه السلام، وقومه “أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ” لنا؛ وقد ورد هذا مرتين في سياق الآيات الثلاث.. في الأولى “قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ”؛ وفي الأخرى “لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ”.
وفي حال التساؤل حول: “أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ” في ماذا؟؛ تأتي الإجابة واضحة لا لبس فيها.. “أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ” في مسألة رئيسة تتعلق بموضوع “التوحيد” و”التبرُّؤ من المشركين”؛ وهو ما يتأكد عبر قوله سبحانه: “إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ”. ليس هذا فقط؛ ولكن أيضا من خلال ما جاء على لسان “إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ”، في الآية الكريمة [الممتحنة: 4]، حول التبرُّؤ من المشركين، من شرط واضح: “حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ”؛ وهو الشرط الذي يطرح عدة تساؤلات حوله، أهمها: ما الفائدة من التأكيد على “وَحْدَهُ”(؟).
إذ، كما هو معروف فإن الإيمان بالله سبحانه وتعالى، به وبغيره من الضروريات ولوازم الإيمان، كما في قوله سبحانه: “وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ…” [البقرة: 285]؛ لكن، كما هو واضح فإن الإيمان “بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ”، هو من ضروريات ولوازم الإيمان “بِاللَّهِ وَحْدَهُ”، بمعنى أن المُراد من قوله سبحانه “بِاللَّهِ وَحْدَهُ”، هو “وَحْدَهُ” في الألوهية؛ من حيث إن الإيمان بألوهية غيره لا يكون إيمانًا بالله، عزَّ وجل، بل هو “الإشراك” في الحقيقة.
ثم، يأتي الدعاء تأكيدًا على تأكيد أن “أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ”، إنما هو اصطلاح يتعلق بـ”التوحيد” و”التبرُّؤ من المشركين”؛ حيث يقول تعالى “رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ” [الممتحنة: 5]؛ وهو دعاء خاص يتضمن أعلى درجات التوحيد عبر صيغة “إِنَّكَ أَنْتَ”، في قوله سبحانه: “رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ”، خاصة أنه يأتي بعد طلب المغفرة “وَاغْفِرْ لَنَا”.
واللافت، أن هناك ثمة شبه واضح بين التأسّي بـ”إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ”، وبين التأسّي بـ”رَسُولِ اللَّهِ”؛ ويأتي هذا الشبه، بل الارتباط، بين الحالتين في التأكيد على أن “أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ”، هي “لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ”؛ وهو قوله عزَّ وجل الذي ورد مرتين، في قوله سبحانه: “لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ” [الممتحنة: 6]”؛ وفي قوله تعالى: “لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا” [الأحزاب: 21].
يعني هذا، في ما يعنيه، أن دلالة الشبه بين إبراهيم عليه السلام، والرسول العربي عليه الصلاة والسلام، ومن آمن بهما من جهة، وبين قومهما من جهة أخرى؛ هذه الدلالة تتعلق بأن تبرُّؤ كل من إبراهيم والذين معه، والرسول العربي والذين آمنوا به، إنما هو “تبرُّؤ من المشركين”. ومن ثم، فإن آيات التنزيل الحكيم ترسم لنا ملامح كيف تكون لنا فيهم “أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ”؛ إذ إن “مَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ” أن يحذو حذو إبراهيم عليه السلام ومن كان معه، وحذو الرسول عليه الصلاة والسلام والذين آمنوا به، في التبرُّؤ من المشركين انتصارًا للتوحيد، توحيد الله سبحانه وتعالى، بكل ما يعنيه هذا التوحيد من عبادات ومعاملات، على المؤمن أن يؤديها.
أما سحب “أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ”، وإسقاط مفهومها، ودلالاتها، على اللحية والشارب واللباس وغيرها من مظاهر، فهو عندنا ليس بشيء.