الرواية أرض خصبة للتجريب، خاصة مع عدم وجود قواعد أو محددات معينة يُمنع تجاوزها، أو تخطيها، أو عدم الالتزام بها، دون أن ننسى أنه حتى الفنون التي لها قواعد ثابتة تُجوزت وتُمرد عليها، كما حدث في ساحة الشعر مثلًا، حتى وصلنا إلى زمن التجريب في كل شيء، ما جعل الحدود الفاصلة بين الفنون تتلاشي؛ معلنين أحيانًا تمردًا على القديم، وأحيانًا سيرًا وراء الرغبة في مجرد تجريب ما هو مختلف، واكتشاف أراضٍ جديدة لم تُكتشف من قبل بمثل هيئتها الجديدة.
أقواس النصر
يحاول الشاعر والروائي اليمني هاني الصلوي في روايته ” طفل الثامنة والتسعين نصراني ” الصادرة عن مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر، أن يجرب طريقة أخرى لكتابة الرواية، غير الطريقة التقليدية المتعارف عليها، متخذًا من تقنية كتابة رواية داخل رواية متكأ لهذا التجريب، وإن كان هذا قد يُوقع القاريء، في بعض مناطق الرواية، في حيرة أنه في أي الروايتين بالتحديد: وأنا إنما ابتغيت تحقيق شكل فني جديد في السرد، يتعلق ببناء النص مجددًا والتعليق عليه، وإنتاج صيغ أحدث منه، وهو ما عولت فيه على نباهتك وإتقانك ومهارتك..هل فهمتني؟، كما جاء على لسان الراوي في رواية طفل الثامنة والتسعين نصراني، التي جاءت في جزئين كل منهما تجاوز الثلاثمائة وخمسين صفحة، يفتتحها الكاتب بمقولة لـ لاوتسو تقول: هذا الذي ترونه يمر من تحت أقواس النصر والذي تهتف له الجماهير ليس هو البطل. أنجز البطل عمله وذهب تحت جنح الظلام إلى النهر، ومن هناك أخذ قاربًا وعبر إلى الضفة الأخرى، فاختفى في الغابة!
تركيز شديد
نحن هنا لسنا أمام رواية طيعة منقادة، وربما لا تكون مشكلة طفل الثامنة في كبر حجمها الذي تجاوز السبعمائة صفحة فقط، بل في أنها ليست رواية سهلة، إنما تحتاج إلى تركيز شديد حتى لا تُفلت الأحداث من القارئ، ويفهم ما يجري على النحو الصحيح، خاصة وأن الكاتب استخدم عدة تقنيات تعمل على تشتييت القارئ إن لم ينتبه إليها جيدًا، منها تغيير حجم خط السرد، من عادي إلى البوولد بأحجامه، إلى طريقة عرض السطور في الصفحة، حيث تُظن بعض الصفحات قصائد شعر من طريقة توزيع السطور، وهي بالطبع ليست كذلك.
نحن هنا لسنا إزاء رواية واحدة، بل ثلاث روايات مبدئيًا: الرواية الأم “طفل الثامنة والتسعين نصراني”، وروايتان داخلها وهما “أحمد النصراني” و “سرور البينيان” وقد كتبهما باسم غانم عبد القيوم، وحقق الرواية الأولى منهما وكتب دراسة لها د. وليد عبد الباسط حنبلة.
يصف عبد القيوم روايته بأنها أول رواية في تاريخ السرد العربي يكتبها الناقد، وليس الروائي أو السارد عمومًا، وأنها رواية ساحرة ومن الظلم الشديد ألا يقرأها الناس!
الرواية التي تحاول توجيه صفعة للعالم الرأسمالي، ساعية إلى قراءة التاريخ على وجهه الصحيح، لا المزيف، تناقش هنا مسألة انفصال الدولة الواحدة إلى عدة دويلات صغيرة، مشيرة إلى ما تفعله الأيدي الخفية للأعداء، منتقدة الحروب وما يحدث عنها من دمار وهلاك للإنسان وممتلكاته: ” العالم يموت بطريقة بشعة! الكل يحارب. الجميع يموت “، داعية إلى عدم التخلي عن المبادئ مهما حدث، راصدة كيف تسطو القلة القليلة على مقدرات البلاد، حارمة الأغلبية من كل شيء، وكأن هؤلاء القلة هم حراس خزائن الله في الأرض، يمنحون ويمنعون كيفما يحلو لهم، كما تحتفي بالمرأة؛ مُثمّنة دورها في الحياة، مُظهرة جهدها وجهادها الذي تواصله في الحياة منذ مولدها وحتى عودتها إلى أمها الأرض مرة أخرى.
الإنسان أهم
ولعل أهم ما في “طفل الثامنة والتسعين” التي يحمل بطلها اسم “أحمد النصراني” أنها تقدم مفارقة صريحة تجعلنا نستشف منها أنها تريد أن تقول أن ثمة تجاورًا بين الأديان، وأنه يصعب، في كثير من الأحيان، الفصل بينها، واصلة إلى حد أن تقول إن الإنسان هو الأهم بعيدًا عن دينه أو جنسيته، كما نجدها مليئة بالتساؤلات، ومنها ما جدوى السياسة؟ ولماذا يفرقون بين مواطني البلد الواحد؟ وما فائدة الحروب؟ ولماذا تتضخم ثروات البعض، ولماذا يدهس الفقر المدقع ملايين البشر؟ منتقدة ما صنعه الغرب من زرع الجماعات الإرهابية في بلدان الوطن العربي، وما نتج عن ذلك من آثار سلبية وسيئة، مشيرة إلى الذين ينادون بالحرية والعدالة الاجتماعية وحق تقرير المصير، بينما هم أنفسهم يمارسون ما هو غير ذلك، دون أن تغفل قيمة ودور أولئك الذين قاوموا الاحتلال بشتى صوره، ولم ينقادوا له، بل ظلوا رجالًا وأبطالًا في مواجهته رغم عدته وعتاده.
كذلك تريد الرواية أن تقول لنا إن الله جميل لا يرضى بما يفعله الذين يلقون بأنفسهم في التهلكة منتحرين وقاتلين غيرهم من الأبرياء، مؤكدة أن المبالغة في المثالية تخلق سلوكيات وأفعالًا مضادة عنيفة تؤدي إلى همجيات ليست هناك وسيلة ناجعة للسيطرة عليها، كما ترى أن التاريخ الحقيقي، إن كان هناك تاريخ حقيقي، فلن يكون إلا من خلال الرواية، وليس من خلال المؤرخين الذين لا يخلو عملهم من تبجح وتعالٍ.
وأخيرًا، هذه قراءة أولى لرواية ضخمة، قد تكشف كل قراءة تالية لها جديدًا فيها، فهي رواية على غير مثال سابق، آمل أن تفتح أبوابًا أجد في السرد، لا سيما ونحن نعرف شغف الكاتب بكل جديد مثمر، وإن علمنا بامتلاكه باعًا طويلا في التنظير لأنماط جديدة في التفكير والتطبيق، وهو ما نجده في كتبه وأبحاثه الكثيرة التي قدم خلالها نظريته الـ بعد ما بعد حداثية التي دعاها بالحداثة اللامتناهية الشبكية، وما نجده في مبحث أثير ضمنه كتابه المشهور “الحداثة اللامتناهية الشبكية .. أزمنة النص/ ميديا… آفاق بعد ما بعد الحداثة” سماه “السرد اللامتناهي الشبكي”.