رؤى

حول صحة مقولة.. عثمانية “الرسم القرآني”

ضمن القضايا التي لم تأخذ حقها من البحث والدراسة، تأتي الإشكاليات المتعلقة بمسألة “الرسم القرآني”؛ ذلك أننا ورثنا مقولات، وتداولناها، دونما تمحيص أو بحث حول مدى صحتها، اعتمادا على ما قال الأولون به؛ وضمن أشهر تلك المقولات، مقولة “الرسم العثماني” للقرآن الكريم؛ ولا ندري من “عثمان” هذا، الذي يبدو أنه يعود إلى “الخلافة التركية” ثم من ذا الذي تفتق ذهنه عن إطلاق مثل هذه المقولة “غير الصحيحة” إطلاقًا.

نحن نعلم -بادئ ذي بدء- أننا نفتتح موضوعًا، لن يَرْضَى الكثيرون عن كيفية تناوله؛ نتيجة الارتياح والارتكان إلى ما تعارف عليه الأولون، رغم ما يحمل من خطأ دلالي بيِّن وواضح، بشكل لا يقبل السكوت عليه. هذا وإن كان يعني أن الكثيرين على دربهم (درب الأولين) سائرون؛ إلا أنه يؤشر -بالنسبة إلينا على الأقل وإلى كثيرين ممن ينتمون إلى مدرسة التعامل المنهجي مع القرآن الكريم- أن لا نتوقف دونه، أو أن نأخذ تلك المقولات كما هي دون مناقشة على الأقل.

ولنا أن نؤكد بداية، على خطأ مقولة “عثمانية الرسم القرآني”؛ فالقرآن “كتاب مُنَزَّل” من عند الله سبحانه وتعالى، والرسم القرآني توقيفي ترتيلي، من عنده عزَّ وجل، وليس عثمانيًا؛ بل وليس بالأصل سنيًا نبويًا، ولا إرشاديًا إماميًا؛ وإنما هو قرآني توقيفي ترتيلي.

وهنا نؤكد على أن اصطلاح “الرسم القرآني”، هو لدينا أكثر صحة من عبارة “رسم القرآن”؛ لعديد من الأسباب، أهمها: إن الأخيرة هي عبارة تُشير إلى أن هناك من تطوّع وكتب القرآن بهذا الشكل؛ أما الأولى فهي تعني أن هذا الرسم القرآني الذي نُطالعه مع كل مرة نقرأ فيها المصحف، هو خاص بالقرآن الكريم، وخاص بآيات التنزيل الحكيم؛ بما يعني أن له من الدلالات التي لابد من محاولة الكشف عنها، عبر تدبر الآيات القرآنية من خلال لسانها، اللسان القرآني، وسياقها ودلالة ألفاظها وتعبيراتها واصطلاحاتها.

يقول سبحانه وتعالى: “وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ” [الأحقاف: 12]؛ وعبر هذه الآية الكريمة لنا أن نلاحظ الـ”قَبْلِية” التي يتسم بها “كِتَابُ مُوسَى”، وأن هذه الـ”قَبْلِية” إنما تدل على “الكتابة”؛ ولأنه من المعلوم أن “كِتَابُ مُوسَى” نزل مكتوبًا، فيجري ذلك على آيات التنزيل الحكيم؛ خاصة عند مراجعة مُفتتح سورة الأحقاف، حيث يقول سبحانه: “حم ٭ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ” [الأحقاف: 1-2]؛ بما يؤكد أن القرآن الكريم نزل كتابًا مكتوبًا؛ مع التأكيد على الفارق اللساني بين “هَذَا كِتَابٌ”، وبين “الْكِتَابِ”، من حيث إن الأخير يأتي مُعرفًا بـ”ألف لام” التعريف؛ وهو فارق سوف نقوم على تناوله في ما يأتي من حديث.

وفي مُفتتح سورة يونس، يقول سبحانه وتعالى: “الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ٭ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرْ النَّاسَ وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا…” [يونس: 1-2]؛ فهل من المنطقي أن يصف الله جلَّ جلاله ما يكتبه الناس، برسم منهم، بأنه “آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ”. أضف لى ذلك، ما تدل عليه ملاحظة سياق الآيتين الكريمتين، من أن “آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ”، هي ـ على الحقيقة ـ “وحي من الله”، بدلالة قوله تعالى: “أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ”؛ بما يعني الالتقاء الدلالي الواضح بين “أَوْحَيْنَا”، وبين “آيَاتُ الْكِتَابِ”، بما يحمله هذا الالتقاء الدلالي على تأكيد كتابية “كتاب الوحي”.

وهناك أكثر من آية كريمة، تحمل دلالات تؤكد على ما ذهبنا إليه، من أن الكتاب هو كتاب مُنَزَّل من عند الله؛ ومن ثم، فهو “مكتوب” وليس “شفاهيا”؛ كما يؤكد السياق الوارد في سورة الأنعام.. يقول سبحانه: “وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ…” [الأنعام: 92].

وهذه الآية الكريمة تتكامل “سياقيًا” مع الآية التي تسبقها مُباشرة، في التأكيد على “كتابية الكتاب”؛ حيث يقول تعالى: “وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا…” [الأنعام: 91]. إذ إن “تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ” تؤكد بشكل لا يقبل الشك على كتابية “الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى”؛ وفي الوقت نفسه، كتابية آيات التنزيل الحكيم، من منظور أن مُفتتح الآية التالية مُباشرة “وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ” [الأنعام: 92].

شاهد آخر، من بين مجموعة من الشواهد والدلائل القرآنية، على أن “الكتاب: هو قول مكتوب، ولا يُطلق على غير المكتوب”؛ إذ إن الشواهد من الأسس المهمة في الاستدلال، من حيث إنها تدخل ضمن إطار “علمية المعرفة”؛ فما بالنا بالمعرفة القرآنية. يقول سبحانه وتعالى: “المص ٭ كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ” [الأعراف: 1-2]؛ وكما هو واضح من سياق الآيات الكريمة، أن الله سبحانه ينهى رسوله الكريم عن “الحرج” من الكتاب، “فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ”؛ وفضلًا عن أن هذا الكتاب هو “كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ”، أي كتاب مُنَزَّل من عند الله تعالى، فإن النهي يأتي نهيًا عن الحرج في “صَدْرِكَ”، بما ينفي روايات كثيرة في هذا الشأن.

وهو ما يتأكد عبر سياق هذه الآية الكريمة، مع الآية التالية لها مُباشرة؛ حيث يقول عزَّ من قائل: “اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ” [الأعراف: 3]؛ وهنا يبدو الأمر الإلهي “اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ”، الذي يلتقي سياقيًا مع قوله سبحانه “كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ”؛ فضلًا عن النهي الإلهي بعدم اتباع “مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ”.

أيضًا، هناك دليل أخير، نكتفي به هنا، وهو قوله تعالى: “تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ٭ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ” [الزمر: 1-2]؛ إذ هاهنا يتبدى بوضوح  أن الكتاب لو لم ينزل مكتوبًا، ما كان سبحانه وتعالى قد وصفه بـ”الْكِتَابَ”، حيث ورد المصطلح مرتين بين أقل من “عشر” كلمات؛ هذا إضافة إلى أن “الْكِتَابَ”: ليس فقط “تَنْزِيلُ… مِنْ اللَّهِ”؛ ولكن أيضا أنه أُنزِلَ “بِالْحَقِّ”.

وبالتالي، كيف لا يكون الكتاب مكتوبًا؟!

والأهم، ما أهمية “الرسم القرآني” وعلاقته بالدلالات التي تحملها آيات التنزيل الحكيم؟!

للحديث بقية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock