مع دخول “الحركة الشعبية – شمال”، خلال الآونة الأخيرة، على خط الصراع العسكري بين الجيش وقوات الدعم السريع، ازدادت الأمور تعقيدًا في السودان، وباتت الأزمة على مفترق طرق خطير، قد يُحوِّل مسار الحرب الدائرة في هذا البلد. فرغم اتفاق وقف إطلاق النار، الذي تُجدده سنويًا مع الحكومة السودانية، دخلت الحركة الشعبية على خط الصراع عبر الهجوم الذي شنته مؤخرًا، على قوات من الجيش السوداني، برئاسة اللواء 54 مشاة كادقلي، في ولاية جنوب كردفان.
ومع أن البيان الصادر عن الجيش قد أكد أن الحركة تكبدت خسائر كبيرة؛ إلا أن تجاوز الحركة لاتفاق المبادئ الذي قضى بالوقف الشامل لإطلاق النار مع الجيش، ووقِّع عليه مع الحكومة الانتقالية، في مارس 2020، برعاية دولة جنوب السودان- يُثير تساؤلات متعددة، بخصوص مقاصد الحركة من الدخول في مواجهة مع الجيش، في الوقت الذي يخوض فيه الأخير صراعًا عسكريًا مع الدعم السريع؛ وهل تُمثل هذه المواجهة دعما غير مباشر لـ”الدعم” في معركته مع الجيش؛ رغم ما هو معروف من العداء الشديد بين الحركة وقوات الدعم السريع؟
مقاصد ميدانية
كما يبدو، فإن ثمة أهداف ومقاصد متعددة تستند إليها الحركة الشعبية، في الدخول على خط الصراع في السودان، عبر افتعال مواجهة مع الجيش. ولعل أهم هذه الأهداف، اثنين:
من جانب، تشتيت جهود الجيش في عدة جبهات؛ فالاشتباكات التي نشبت بين الحركة الشعبية – شمال، جناح عبد العزيز الحلو، والجيش السوداني، جنوبي كردفان والنيل الأزرق، تُهدد باستنزاف الجيش السوداني على عدة جبهات؛ بل إنها يمكن أن تغير من موازين القوى في الصراع، بين الجيش والدعم السريع، خصوصا في العاصمة السودانية الخرطوم.
فالصراع الدائر في ثالث أكبر بلد أفريقي من حيث المساحة، الذي كان مقتصرًا على الخرطوم، وامتد إلى الغرب، ثم جنوبي البلاد؛ سوف يتمدد إلى مساحات أكبر وأكثر اتساعًا، عبر تحركات الحركة الشعبية، وهو ما سوف يؤدي إلى إنهاك الجيش؛ بما يعني أن هذا الصدام، بين الحركة والجيش، سوف يصب تلقائيًا في صالح قوات الدعم السريع. ولعل ما يدفع هذا الاحتمال إلى الواجهة، هو التنظيمات الفرعية التي يمكن أن تتحول، داخل الحركة الشعبية، من تبعيتها لجناح مالك عقار، إلى الانضمام للجناح المنافس، جناح الحلو.
من جانب آخر، تأكيد سيادة “جناح الحلو” على الحركة؛ فالحركة الشعبية كانت قد انشقت، في عام 2017، إلى جناحين، الأول جناح مالك عقار، الذي يشغل الآن منصب نائب رئيس مجلس السيادة السوداني، عوضًا عن محمد حمدان دقلو الذي أقاله عبد الفتاح البرهان، بعد اندلاع صراع الجيش مع الدعم السريع؛ والآخر جناح عبد العزيز الحلو، الذي أخذ معه معظم مقاتلي الحركة، وقاد من معقله، في جبال النوبة وجنوب كردفان، أكبر فصيل معارض من الحركات المسلحة السودانية.
وكما يبدو، فإن المواجهة مع الجيش السوداني، في هذا التوقيت، يأتي كنوع من تأكيد سيطرة جناح الحلو على الحركة الشعبية، التي أضافت كلمة شمال إلى اسمها، بعد انفصال جنوب السودان؛ بل ونوع من حسم هوية الحركة، كحركة مسلحة معارضة، خاصة بعد انحياز مالك عقار إلى الجيش السوداني، بعد توليه منصب نائب البرهان.
وكما يبدو، فإن المواجهة مع الجيش، في هذا التوقيت، تأتي للاستفادة من انشغاله بالصراع مع الدعم السريع؛ ومن ثم فإن ما جرى في جنوب كردفان لم يكن مُفاجئًا، من حيث استهداف الحركة تحقيق بعض المكاسب العسكرية على الأرض، نتيجة انشغال الجيش بالصراع الذي يدور في الخرطوم ودارفور.
تداعيات سلبية
رغم تعدد مقاصد وأهداف الحركة الشعبية، جناح الحلو، من افتعال مواجهة عسكرية مع الجيش السوداني؛ إلا أن الأمر لا يخلو من تداعيات سلبية، على الكيان السوداني بأكمله، إذا ما استمرت هذه المواجهة بينهما، في ظل الصراع الأكبر بين الجيش والدعم السريع.
ولعل أهم هذه التداعيات.. هي التالية:
من جهة، السيطرة على حقول نفط جنوب كردفان؛ إذ لم يكن هجوم الحركة الشعبية على قوات الجيش السوداني، في مدينة كادقلي، هو الأول من نوعه؛ فقد سبق للحركة أن هاجمت مدينة الدلنج، المجاورة لكادقلي بولاية جنوب كردفان. وبالتالي، يبدو استهداف الحركة لهذه المناطق تحديدًا، تلك الواقعة في جنوب كردفان، والتي تشترك في حدودها مع ولاية غرب دارفور ودولة جنوب السودان، حيث تقع حقول النفط السودانية الرئيسة.
ولعل اختيار الحركة، التي تتمتع بعلاقات وثيقة مع جوبا، بالمواجهة مع الجيش، في ظل اهتمام الأخير بالصراع الدائر في الخرطوم ودارفور، وتركيزه على المعركة العسكرية مع قوات الدعم، يؤكد استهداف الحركة السيطرة على مناطق جنوب كردفان؛ ومن ثم حقول النفط الرئيسة في السودان.
من جهة أخرى، إشكاليات تكرار سيناريو انفصال الجنوب؛ حيث يبدو في الأفق السوداني، احتمال أن تقود الصراعات المسلحة، بين الجيش وقوات الدعم السريع من جهة، والجيش والحركة الشعبية من جهة أخرى، إلى تأجيج دعوات الانفصال بعد تمددها إلى مناطق واسعة في كردفان ودارفور، في سيناريو كارثي للسودان، يُعيد إلى الأذهان سيناريو انفصال الجنوب عن السودان الأم، في عام 2011.
وكان مالك عقار قد أعلن، خلال مؤتمر صحافي في مقر الوكالة الدولية للإعلام “روسيا سيغودنيا”، الأربعاء 16 أغسطس الماضي، أن قوات جوزيف توكا، المنضوية في إطار الحركة الشعبية جناح الحلو، “تهدف إلى تقسيم السودان”، مؤكدًا أنها “ليس لديها القدرة على محاربة الجيش السوداني”، وذلك في معرض رده على تساؤل بخصوص إمكانية اعتبار تحركات قوات توكا، أحد قيادات الحركة الشعبية، على الحدود الإثيوبية، دخول طرف ثالث في الصراع السوداني.
من جهة أخيرة، تهيئة المناخ لخسارة الجيش السوداني؛ إذ رغم أن الحركة الشعبية تُعد تقليديا “العدو اللدود” لقوات الدعم السريع، وأنها أفلحت من قبل في التصدي لهجمات الدعم السريع عليها، أثناء محاولة الرئيس السوداني السابق، عمر البشير، من إنهاء وجودها عسكريًا، مثلما فعل مع الحركات المسلحة الدارفورية المتمردة؛ فإن المواجهة مع الجيش، من جانب الحركة، يأتي في صالح حسم الصراع بين الجيش وقوات الدعم لصالح الأخيرة.
في هذا السياق، يُمكن القول بأن السودان قد دخل فعليًا، إلى “دائرة مُفرغة” من العنف والاقتتال، الذي يسمح باحتمال تفجر الأوضاع الأمنية في العديد من أقاليمه؛ خاصة في ظل ما تشهده هذه الأقاليم، من تصاعد الصراع على السلطة “دون الوطنية”، بين النخب السياسية المحلية المتنافسة، والحركات المسلحة، لتأسيس سيطرة محلية على الأرض أو لتأكيد السلطة بالقوة.
إلا أن الملاحظة الأهم، في السياق ذاته، هي الخاصة بالنموذج الذي يبدو عليه تفكير الحركات المسلحة في السودان، تلك التي تنتهج “تغليب التاكتيك على الاستراتيجية”، في محاولة لتحقيق مكاسب وقتية سريعة، دونما التفكير في ما هو أبعد من ذلك؛ حيث تبدو تحركات الحركة الشعبية، ومواجهتها مع الجيش السوداني، وكأنها تُنسق مع قوات الدعم السريع، لفتح جبهة جديدة، بحيث تتوزع قدرات الجيش في أكثر من جبهة؛ بما يُساعد على هزيمته، وتفكيك البلاد.