رؤى

مقاومة مشروعة أم إرهاب غير مشروع.. طه عبدالرحمن يُجيب

أسهم الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن الحاصل على جائزة الإيسيسكو في الفلسفة والفكر الإسلامي عام ٢٠٠٦، بسلسلة من الأعمال الفكرية منذ سبعينيات القرن العشرين في التحليل النصي والدرس التأويلي، انطلاقا من قناعته بضرورة تجديد النظر في كثير من المفاهيم المنثورة من حولنا، فحصا ونقدا وتصحيحا وتنقيحا للخروج من تيه الأفكار الذي نعيشه، “فالتيه في الفكر كالتيه في الأرض؛ إذ لا أهداف يعلمها التائه يقينا حتى يتجه إليها؛ ولا وسائل يملكها حقًّا حتى تُوصِّله إلى هذه الأهداف؛ والتِّيه الفكري الذي أصابنا ينطق به حالُ الشتات الذي يُوجد فيه أهل الفكر بين أظهرنا؛ وهذا الشتات ألوان شتى: شتات في المكان؛ فلا رواق يُظلهم، ولا مجلس يضمهم، ولا ملتقى يشملهم، ولا دار ندوة تؤويهم. وشتات في الزمان؛ فلا حضور في عالم القرار لأفكارهم، ولا أثر في أفق المستقبل لمواقفهم، ولا تحاور بين أفراد الجيل الواحد منهم، ولا تخاطب بين مختلف أجيالهم.

وشتات الأفكار، هو أسوأ ألوان الشتات، فهذا واقع تحت طائلة التقليد، داعيا إلى الترديد والانكماش؛ وذاك واقع تحت طائلة التنميط، داعيا إلى التكيُّف والاندماج؛ وهذا يتشبّث بكل قديم خوفا على فقدان الهوية؛ وذاك يتقلب مع كل جديد، طمعا في التحقق بالغيرية؛ وهذا كل يوم في إشكال، فتارة يندمج وتارة ينكمش، وتارة بين بين، وذاك لا إشكال عنده، يفكر لساعته لا يعدوها؛ لكن على تباينهم درج كلُّ واحد منهم على أن يفكر مذكيا لنفسه، وهيهات أن يفكر معترضا عليها! والحق أنه لو اشتغل بالاعتراض على نفسه، لأدرك أنه في تيهٍ عظيم”.

طه عبدالرحمن

ولا سبيل للخروج من هذا التيه إلا بإعادة النظر في المفاهيم المتداولة؛ ومنها مفهوم “الإرهاب”، والمقاومة” اللذيْن توقّف طه عبد الرحمن عندهما، فالإرهاب، والمقاومة كلاهما سلوكُ طريق العنف في التّوصل إلى المطلوب، غير أن ثمّة تمايز بينهما، فالإرهاب عنف غير مشروع، والمقاومة للمحتلّ عنف مشروع يحميه القانون الدولي، إلا أن مفهوم المقاومة يتعرّض لتشويش من مفهوم الإرهاب، الذي يتعدد في ألوانه وأشكاله، فهناك إرهاب من الفرد وإرهاب من الدولة، وليس الإرهاب، كما هو شائع، محصور في الأفراد والجماعات؛ وإن كان إلقاء المسئولية على الأفراد أكثر رواجا من إلقائها على الدول، التي تُمارس أنواعا من العنف تصل إلى مستوى جرائم الحرب، فالدول مثل الأفراد تنخرط في أعمال إرهابية، فمنه ما هو مادي جلي كالإرهاب الجسدي، والاقتصادي، والعسكري، الذي نشاهده على شاشات الفضائيات من أعمال قصف وحشي، ومن الإرهاب ما هو معنوي، مثل الإرهاب سياسي، والثقافي، والنفسي.. فنحن في عالم يشهد أشكالا متعددة من الإرهاب، منها إرهاب المضطر وإرهاب المختار، الإرهاب الشامل والإرهاب المحدود، والإرهاب الدائم والإرهاب العابر، والإرهاب الجلي والإرهاب الخفي، والإرهاب المادي والإرهاب المعنوي، وأمام هذا الكم الهائل من أشكال الإرهاب هل يُمكن أن يحدث حوار حضاري؟

يتشكك عبدالرحمن في جدوى وحقيقة الحوار الحضاري بين طرفين: أحدهما يمتلك حضورا حضاريا والثاني يُعاني من إخفاق حضاري، ولا يخفى أن مفهوم “الحضارة” في قولنا “حوار الحضارات” “مفهوم مجمل غير مفصّل، بل مفهوم مشوَّش غير مبيَّن؛ فقد يُستعمل تارة بمعنى مساوٍ للثقافة، بحيث يكون حوار الحضارات هو عينه حوار الثقافات، وقد يُستعمل لفظ “الحضارة” تارة أخرى بمعنى أعمّ، فيكون حوار الثقافات جزءًا من حوار الحضارات؛ وقد يستعمل لفظ الحضارة” تارة ثالثة بمعنى أخص، فيكون حوار الحضارات جزءًا من حوار الثقافات”.

وأيًّا ما كان المراد بالحضارة فإنه لابد من تحققها بالحضور المكاني، والزماني؛ وحضورها في المكان هو نهوضها بالفعل العمراني على أوسع نطاق، وحضورها في الزمان هو نهوضها بالفعل التاريخي على أعمق وجه؛ ومتى أخذنا بهذا الشرط المزدوج، فلا مفر من أن نُقرَّ بأن الحضارة التي تنهض بهذين الفعلين: “الفعل العمراني الأوسع” و”الفعل التاريخي الأعمق” في عالمنا هذا هي الحضارة الغربية وحدها، وليس غيرها؛ أما الحضارات الأخرى بما فيها الحضارة العربية والإسلامية، فلا حضور مشهود لها، فلا هي تزيد في العمران وفق قدراتها الخاصة، ولا هي تصنع التاريخ وفق قيمها الحيّة؛ ويترتب على هذا تعسّر أي مسار تفاوضي، فالحوار لا مجال لتحققه، إذ لا يُمكن أن يُتصور أن يكون هناك حوار بين حضارة مشهودة، وحضارات غائبة أو ماضية؛ والصواب أن يُستبدل بمفهوم “حوار الحضارات” مفهوم: “حوار الحضارة الغربية مع الثقافات الأخرى”؛ لأن الثقافة لا يُشترط فيها الشهود العمراني، والشهود التاريخي كما حددناهما، بل يكفى وجود الذاكرة، ويمكن أن يُوصل المشهود بالمذكور، ويستند الحاضر إلى الماضي.

وإذا انطلقنا من مفهوم “حوار الحضارة الغربية مع الثقافات الأخرى” فهل يُمكننا أن نُقيم حوارا؟

ويُجيب طه عبدالرحمن بأنّه من يُفكّر في مقتضيات الحوار على وجه العموم، لا يلبث أن يُقرر أنه لا حوار في عالم تسود فيه حضارة واحدة أو قل حضارة منفردة؛ لأن التّفرد نفي للآخر، ونفيه إنهاء للحوار قبل أن يبدأ، والإشكالية الأكبر عندما يتبنى المتفوق حضاريا خيار الإرهاب أداة للوصول إلى المطلوب؛ فالحوار السائد، في ظلّ إرهابٍ تُمارسه دول، وتُباركه دول أخرى، لا يُمكن أن يكون حوارا تفاوضيا حقيقيا، وإنما هو حوار تقويمي، في نطاق الحضارة المتوحدة، فهي غير مستعدة للتخلي عن بعض مواقفها من أجل الاعتراف بحقوق غيرها.

طه عبد الرحمن

فلا أمل في حوار تفاوضي يقوم على حساب المصالح من الجانبين، فتقع المطالبات والتنازلات من كلا الجانبين بالقدر الذي يجعل كلّ واحد منها يحفظ مصالحه في ظرفه الحالي، إذ يكون الغرض من هذا الحوار هو إجراء أفضل معاملة أو قلْ: إحراز أفضل صفقة، وأفضل الصفقات بالنسبة إلى هذا النوع من الحوار هو أن يحقق أكبر المكتسبات بأقل التنازلات، وغالبا ما يطلق على هذه الصفقة الأفضل اسم “الحل الوسط”، ومعلوم أن الحلّ الوسط معلق بحال ميزان القوة بين المتفاوضين.

فالعلاقة بين الحوار التقويمي والحوار التفاوضي علاقة جدلية صريحة؛ فإذا زاد الحوار التقويمي، نقص الحوار التفاوضي؛ والعكس صحيح، إذا نقص الحوار التقويمي زاد الحوار التفاوضي؛ والحضارة الجيدة هي الراعية لأشكال الحوار التفاوضي الدافعة إليه، والحضارة غير الجيدة هي تلك التي يسود فيها الحوار التقويمي، وتتفاضل الحضارات بين هذين الطرفين بحسب حظها من كلا الحوارين، ويظهر أن الحضارة المتوحدة الني نحياها اليوم تضطر في بعض الحالات إلى الحوار التفاوضي، وفي حالات أخرى تأبي هذا الحوار ذاته، مؤثرة ممارسة العنف ومنكرة الحقوق الأساسية للمختلف معها، وفي مقدمتها حق مقاومة المحتل كوسيلة مشروعة للدفاع عن النفس.

أ.د عبد الباسط سلامة هيكل

أستاذ بجامعة الأزهر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock