ظاهرة متكررة بات يُعاني منها الصومال، خلال الآونة الأخيرة، تتعلق بالتصادم والاقتتال الداخلي بين الوحدات العسكرية، وفي أحايين كثيرة بين وحدات من القوات العسكرية والقوات الأمنية. هذا التصادم، وإن كان يُعبر في أحد جوانبه عن الأولوية التي يحتلها الانتماء القبلي، والعشائري، بين مواطني المجتمع الصومالي؛ فهو في الوقت نفسه، يعكس حالة من الانقسام المجتمعي، الناتج عن مجموعة من الأسباب الفاعلة داخل الجيش والمؤسسات الأمنية المختلفة.
ولعل أهم هذه الأسباب، يختص بالتمايزات بين الوحدات العسكرية، وتهميش بعضها لحساب أخرى؛ وكذلك التمايز في منح الرتب العسكرية، والاختلاف في الزي العسكري بين الوحدات. هذا، فضلًا عن التفاوت الكبير في الرواتب، الذي يعود في جانب كبير منه إلى اختلاف الجهات الخارجية المانحة هذه الرواتب.
عوامل التصادم
مثلما حدث مؤخرًا، فقد سُجلت حالات تصادم واشتباكات بين وحدات عسكرية صومالية، ووحدات من الجيش وأخرى أمنية؛ وتنوعت هذه الحالات في الاقتتال بين وحدة من الجيش وأخرى من الشرطة العسكرية؛ وكذا بين وحدتين من الجيش الصومالي في مدينة “مركا” في إقليم “شبيلى السفلى”. إضافة إلى واحد من أعنف الاشتباكات التي شهدتها العاصمة مقديشيو، مؤخرا، بين قوات فيدرالية في ولاية جنوب الغرب.
وكما يبدو فإن مجموعة من العوامل تؤدي إلى التصادم والاشتباكات بين الوحدات العسكرية الصومالية.. أهمها ما يلي:
أولا: أولوية الانتماء القبلي والعشائري بين الأفراد؛ حيث يُعد الانتماء إلى القبيلة كوحدة اجتماعية، هو الأساس في تعامل الأفراد والجنود داخل الجيش الصومالي؛ ولهذا تعاني ألوية الجيش من مشكلات كبرى في سلسلة إصدار الأوامر، خصوصا إذا كان من يتولى القيادة ضباط من خارج القبيلة. بل إن سيادة عامل “القبيلة” في العلاقات بين الأفراد، سواء من الجنود أو الضباط، ينعكس في عدم انصياع الجنود لأوامر قائدهم، ومهما تكن كفاءته، إن لم يكن من القبيلة نفسها.
وبالتالي، ينعكس عامل الانتماء القبلي في الخلافات الشخصية المتعددة بين أفراد الجيش، تبعا لاختلاف القبائل، والتي سرعان ما تتحول إلى اشتباكات واقتتال بين الوحدات العسكرية؛ فضلا عن أن كثيرين من أفراد هذه الوحدات، لم يتعلم في مؤسسات عسكرية، بقدر ما تعلم عبر الميليشيات القبلية والعشائرية.
ثانيًا: التفاوت الكبير في “رواتب” أفراد الجيش؛ حيث يتلقى الجيش الصومالي، منذ تشكيل أولى وحداته، في عام 2000، رواتب أفراده من عدد من الجهات الخارجية؛ بدأت بالاتحاد الأوروبي الذي يتولى دفع رواتب الوحدات الشُرَطية، خاصة بعد استحداث آلية إيداع الرواتب في البنك المركزي الصومالي، قبل أن تتحول مباشرة إلى حسابات أفراد الشرطة.
أما بالنسبة إلى الجيش، فهناك وحدات خاصة تحصل على رواتبها مباشرة من الجهات التي تتولى تدريبها؛ مثل وحدة النخبة الخاصة “دنب”، التي تولت الولايات المتحدة الأمريكية تأسيسها وتدريبها. أيضا هناك وحدات أخرى تقوم على تدريبها ودفع رواتبها بعض الدول الإقليمية والعربية.
ونتيجة اختلاف الرواتب بين الوحدات العسكرية، بشكل لافت، تتنامى حالة من التمييز، ومن ثم الغضب، بين الوحدات وأفرادها؛ فضلًا عن أن الوحدات التي تُموّل وتُدرّب من جهات خارجية، وتحصل على رواتب أعلى، تسعى إلى تهميش الوحدات الأخرى، بما يخلق فجوة في تنسيق المهام الأمنية والعسكرية في داخل العاصمة وخارجها، والاستعداد للتصادم والاشتباكات العسكرية.
ثالثًا: التمايز الواضح في منح “الرتب” العسكرية؛ فإضافة إلى تعيين الحكومة الصومالية، العناصر المُنشقة عن “حركة الشباب” الإرهابية في مناصب رفيعة المستوى؛ فإن الحكومة تمنح الرتب العسكرية أيضا، فضلا عن مميزات أخرى، بأسلوب يُخالف القواعد العسكرية المُتعارف عليها في المؤسسات العسكرية؛ خاصة أن المميزات التي يتحصل عليها بعض الأفراد، لا تتناسب مع مؤهلاتهم العسكرية.
واللافت.. أن هذه الإجراءات التي تتخذها الحكومة الفيدرالية في الصومال، غالبًا ما تؤدي إلى خلل وإرباك في أداء مهام الوحدات العسكرية؛ هذا فضلا عن أن بعض الوحدات، المُقربة من السلطة، يجري توظيفها لخدمة هذه السلطة في حسم الخلافات مع الولايات الصومالية؛ خصوصًا الوحدات العسكرية التي تدفع الدول الحليفة للسلطة رواتبها.
رابعًا: الاختلافات في “الزي” العسكري بين الوحدات؛ فمع تولي حسن شيخ محمود السلطة، بعد انتخابه من قبل البرلمان، في 15 مايو 2022، وصل عدد القوات العسكرية إلى 12 ألف جندي؛ وارتفع عددهم إلى حوالي 14 ألف جندي، بانضمام ألفي جندي تدربوا في أوغندا إليهم. رغم ذلك، فإن مظهرًا آخر داخل القوات العسكرية والأمنية الفيدرالية، يبدو بشكل لافت؛ وهو اختلاف أزياء الوحدات العسكرية دون استناد إلى أسباب وظيفية.
وكما يبدو، لا يوجد زي رسمي لقوات الجيش في الصومال؛ إذ، ترتدي الوحدات العسكرية أزياء مختلفة، تبعًا لاختلاف جهة تدريبها وتمويلها ودفع رواتبها، ما بين الزي الأمريكي والصيني والتركي، وغيرها. وبالتالي، فإن هذا الاختلاف في الزي العسكري، يؤدي إلى الشك والارتياب بين الوحدات، خصوصًا في حالات المداهمات الأمنية، مما ينتج عنه عدم اليقين، والتطور إلى اشتباكات مسلحة في أحيان كثيرة.
توافق سياسي
في هذا السياق، يُمكن القول بأن التصادم والاشتباكات بين الوحدات العسكرية، أو بين بعضها وبين الوحدات الأمنية والشُرَطية، إنما يؤدي إلى التراجع في أداء كثير من المهام العسكرية والأمنية؛ خصوصًا في ظل ما تُمثله بعض الحركات الإرهابية، مثل حركة الشباب، من خطورة على الواقع الصومالي. إذ، بخلاف الجيوش النظامية التي تتمكن من نقل الضباط والجنود، من مكان إلى آخر، ومن وحدة إلى أخرى؛ فإن الحكومة الصومالية لا تستطيع فعل ذلك، على الأقل بالنسبة إلى الوحدات التي تدربها وتؤهلها، وتدفع رواتبها، جهات أجنبية.
وفضلًا عما سبق، فإن القوى السياسية، على المستويين الفيدرالي والولاياتي، تتحمل جزءًا كبيرًا من المسئولية عن هذه “الفوضى” من التشتت العسكري والأمني؛ بل وعن التصادم والاشتباكات بين الوحدات العسكرية والأمنية، كونها تعمل على توظيف بعض الوحدات الموالية، في حسم الخلافات السياسية، وفي حسم الخلافات بين الولايات والقبائل المختلفة في الصومال.
ومن ثم، يبدو أن بداية الحل بالنسبة لهذه “الفوضى”، من التشتت الذي يؤدي إلى تكرار الاقتتال بين الوحدات، هو “توافق سياسي” بين مختلف الأطراف السياسية على صياغة “دستور دائم” للبلاد، يكون واضحا فيه صلاحيات كل مستوى من مستويات نظام الحكم.