بقلم: عمرو حسين، كاتب صحفي
نقلًا عن موقع عروبة
روى عدد من المقربين لداعية الحقوق المدنية الأمريكي الراحل مارتن لوثر كينغ أنه أجّل مسيرة حاشدة كان يُعدّ لها في خمسينيات القرن الماضي أكثر من مرّة، وذلك لحرصه على أن تكون كاميرات الإعلام وقنوات التلفزة الأمريكية حاضرة في موعد ومكان التظاهرة.
وكان ذلك لتحقيق هدفين من وجهة نظر كينغ؛ الأول، هو تسجيل وتوثيق سلمية المتظاهرين من الأمريكيين السود، والثاني، هو نقل عنف قوات الأمن الأمريكية وقمعها للمتظاهرين على شاشات التلفزة للجمهور في منازلهم بشكل مباشر، الأمر الذي آمن كينغ أنه سيؤدي – بالضرورة – إلى تعاطف الجمهور الأمريكي مع حركة الحقوق المدنية التي كان يقودها في تلك الفترة.
هذا المثال التاريخي ليس بمعزل عن المعركة الدامية التي تدور رحاها اليوم على أرض فلسطين، وخاصة على أرض قطاع غزة الصامد، بل أزعم أنّ معركة “طوفان الأقصى” منذ انطلاقها في السابع من أكتوبر/تشرين الأول هي معركة بالأساس على الصورة، وفي سبيل هذه الصورة يتم إهراق الدماء من قبل العدو في حين يتم بذل التضحيات من قبل المقاومة.
بدايةً، كانت المقاومة حريصة في ذلك اليوم على تغيير صورة حرِص العدو طويلًا على تكريسها في الأذهان وهي صورة “الجيش الذي لا يُقهر”. وقد استبدلت هذه الصورة، لأول مرة منذ نحو نصف قرن، أي منذ الانتصار العربي في حرب عام ١٩٧٣ بصورة مغايرة ومدهشة لجندي صهيوني منكسر ومتراجع أمام مقاتلي المقاومة الذي يقتحمون حصونه المنيعة ويغنمون أسلحته ويأسرون ضباطه رغم الفارق الكبير في حجم التسليح.
ولعلّ هـذه الصورة تحديدًا هي ما يفسّر حالة القصف الجنوني التي انتابت العدو في الأيام التالية للسابع من أكتوبر/تشرين الأول، تلك الحالة التي وصفها شاعر فلسطيني بـ”سعار حاد”.
فالصورة هنا آلمت العدو أكثر من أي خسائر مادية أو بشرية، حيث أنّ صورًا كالمشار إليها أعلاه من شأنها أن تفقد المستوطن الصهيوني إيمانه بجيشه الذي يوفر له الأمن، وإذا ما غاب الأمن، سقط الاستيطان بالضرورة، وهو جوهر المشروع الصهيوني كما وصفه أول رئيس وزراء لدولة العدو ديفيد بن جوريون.
هنا، سعى العدو إلى تغيير الصورة وتغليب صورة القتل والدمار التي يحدثها قصفه المسعور على قطاع غزة الصامد، حتى تتوارى صور السابع من أكتوبر/تشرين الأول في الذاكرة الجمعية العربية ولا تعود مصدر إلهام ولا يبقى سوى صور المعاناة البشرية لأهل القطاع.
وفي الوقت ذاته، سخّر العدو آلة إعلامية ضخمة في دول حلفائه من بلدان الشمال (أوروبا – أمريكا الشمالية) لرسم صورة للمقاومة ككيان همجي وحشي دموي لا يختلف كثيرًا عن تنظيم “داعش”، فروّج لأكذوبة “قطع رؤوس الأطفال” و”اغتصاب السيدات”.
لكن حملة العدو انقلبت عليه كما ينقلب السحر على الساحر ولم يدم التعاطف معه في دول الشمال سوى أيام معدودة ليتحوّل بعدها إلى سخط عارم ضده، تجلى في صورة تظاهرات واعتصامات حاشدة وذلك لسببين:
الأول: صور حرب الإبادة الجماعية التي يمارسها العدو في غزّة والتي طغت على الأكاذيب المذكورة أعلاه.
الثاني: رد المقاومة المحسوب والبارع بصورة مغايرة، فأكذوبة “اغتصاب السيدات الصهاينة” مثلاً تم الرد عليها بشكل عملي من خلال إطلاق سراح مسنّة صهيونية فنّدت هذه الأكذوبة وأكدت على حسن معاملة المقاومة لها طيلة فترة أسرها، وهي المعاملة التي أرجعتها المقاومة إلى عقيدتها وثقافتها المغايرة تمامًا لثقافة العدو.
وغني عن الذكر ما أحدثته تصريحات تلك المسنّة الصهيونية من حرج لحكومة الاحتلال، إذ نسفت في بضع ساعات ما سعت لتكريسه على مدار أسابيع.
ومع بداية الحملة البرّية الصهيونية على قطاع غزة، عادت المقاومة لترسم مرّة أخرى صورة لا تقل أهمية عن صور السابع من أكتوبر/تشرين الأول. ألا وهي صورة المقاتل الفلسطيني المناقضة تمامًا لخصمه الصهيوني، فهو لا يهاب الموت ولا يخشى العدو رغم تفوّقه التكنولوجي، بل يواجهه من المسافة صفر، ويزرع العبوات الناسفة على أبراج دباباته. ولا غرابة هنا إذن أن يصف مجرم الحرب الصهيوني بيني غانتس الصور التي تأتيه من أرض المعركة بـ”المؤلمة”.
من كل ما تقدّم، يمكن القول إننا بصدد مقاومة خبرت العدو طويلًا وأدركت نقاط ضعفه، وتدير ضده معركة إعلامية لا تقلّ في أهميتها عن المعركة على الأرض.