رؤى

ثقافة التحذلق

في سنوات نشأتي٫ كنت – كمعظم أبناء جيلي – أتابع مسلسلات الرسوم المتحركة الأجنبية المدبلجة الى اللغة العربية٫ كان ثمة لفظ متكرر في تلك المسلسلات التي علَّمت جيلي الفصحى المقعرة٫ حيث كنت كثيراً ما أسمع في حواراتها لفظ “متحذلق” للإشارة الى شخص ما ولا أفهم ما المقصود من هذا الوصف٫ خاصة وأنها في أغلب الاحيان كانت تقال للشخص في سياق يُفهم منه أن المقصود بها الاهانة.

مكياج زائف

بعد سنوات طوال٫ أخذت أفتش في معاجم اللغة العربية عن هذا اللفظ الذي أثار حيرتي في طفولتي٫ وبالرجوع الى تلك المعاجم وجدت ان فعل “تحذلق” يعني أن يصطنع شخص ما المهارة أو أن يدعي اكثر ما له منها.. فالمتحذلق هو الشخص المتكلف المتصنع سواء في حديثه أو في سلوكه.

حين وقفت على معنى الكلمة المعجمي٫ تذكرت مشهداً في مسلسل درامي عربي أثر فيَّ أيما تأثير٫ وهو مسلسل “التغريبة الفلسطينية” الذي كتبه الدكتور وليد سيف وأخرجه المبدع الراحل حاتم علي وعرض عام ٢٠٠٤ وتناول القضية الفلسطينية منذ ثلاثينات وحتى نهاية ستينات القرن العشرين.

مسلسل التغريبة الفلسطينية
مسلسل التغريبة الفلسطينية

 في أحد المشاهد شديدة الدلالة في هذا المسلسل المميز٫ يضع وليد سيف حواراً لافتاً على لسان اثنين من أبطال العمل٫ الشاب الجامعي الساخط على المخيم وكل ما فيه .. وقريبه الشديد البساطة.

يفاجأْ الشاب الجامعي بمدى وعي وإدراك قريبه رغم أنه لم ينل حظاً من التعليم الجامعي مثله٫ وهنا يؤكد له قريبه أن إدراكه فطري يرجع إلى نشأته في فلسطين قبل النكبة لا إلى الكتب كما هو الحال مع الجامعي.

ثم يضيف ان التعقيد هو مجرد مكياج زائف وأن من يمارسه يكون مهتماً بصورته الذاتية أمام مجتمعه كمثقف ومُطلع أكثر من اهتمامه بالحقائق.

على هذه النوعية تحديداً ينطبق وصف “المتحذلقين” الذي طالما أثار فضولي في طفولتي٫ وما أكثرهم في عالمنا العربي.

يلجأ المتحذلقون إلى أكثر العبارات تعقيداً وأكثر الجمل تركيباً ويقدمونها إلى القارئ أو إلى المستمع لا للتعبير عن فكرة بعينها وانما لان التعقيد٫ – في عُرفهم على الاقل٫- يكسبهم نوعاً ما من المصداقية الفكرية ويجعلهم ينالون لقب “مثقفين” من قبل العامة.

التحذلق‎

أضف الى ذلك ان التعقيد بطبيعته يجعل استيعاب ما يكتبه او يقدمه “المتحذلق” امر صعب الاستيعاب بالنسبة للشخص العادي او رجل الشارع وهو تحديداً ما يريده المتحذلق لأنه يمنحه ما يحسبه الحق في التعالي على بني وطنه وقومه لأنهم ببساطة لا يفهمون لغته المركبة.

 صاحب الفضيلة .. والرفيق المناضل

لا أذكر تحديداً كم مرة التقطت كتاباً لكي اتصفحه فأجد صعوبة في هضمه لأنني سرعان ما أدرك أن مؤلفه ليس معنياً بايصال فكرة محددة إليَّ كقارئ وانما يهدف الى تكريس ذاته ككاتب يجيد صياغة العبارات التي يرجو أن تتحول الى اقتباسات.

واللافت ان “التحذلق” ليس ظاهرة قاصرة على تيار فكري او سياسي بعينه بل هو ظاهرة عامة  فالمنتمون إلى تيار “الإسلام السياسي” يبحثون عن أكثر التعبيرات تعقيداً في كتب التراث لاسيما في كتب الفقه ويُطعِّمون بها خطبهم على المنابر او على الشاشات رغم إدراكهم التام أن جمهورهم لا يستوعبها إلا أن استخدامهم المتكرر لها يكسبهم –من وجهة نظرهم على الأقل- نوعاً من الحظوة ويجعلهم مستحقين٫  لألقاب من نوعية “مولانا” و”صاحب الفضيلة”.

والأمر ذاته يمكن ملاحظته على المنتمين الى تيار اليسار الاشتراكي في عالمنا العربي من الإصرار على استخدام مصطلحات أجنبية ذات خصوصية تاريخية معينة وعدم محاولة تقديم مقابل عربي لها٫ والغرض هنا ايضاً هو حفاظ المتحذلق على صورة “الرفيق المناضل” حتى وان كانت على حساب الوصول إلى الجماهير الكادحة.

خطب المنابر
خطب المنابر

ومع بروز مواقع التواصل الاجتماعي٫ بات التحذلق ظاهرة اليكترونية ايضاً٫ فثمة نفر غير قليل من مستخدمي هذه المواقع لا يكتب ليوصل فكرة ما لجمهور المستخدمين وانما ليبرز ذاته كشخص لديه ما يقوله حتى وان كان ما يكتبه في المجمل لغواً لا أكثر.

إن ظاهرة “التحذلق” في مجملها تعبر٫ في رأيي٫ عن مجتمعات يدرك أفرادها أنه لا سبيل للتميز الشخصي سواها٫ فالعمل لم يعد قيمة في حد ذاتها والعلم لم يعد فضيلة٫ وبالتالي فان الإدعاء – والادعاء فقط – هو السبيل لشيء من تحقيق الذات والرضا عن النفس حتى وإن كان رضا زائفاً لا أساس له.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock