بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري
نقلًا عن موقع عُمان
كل الاحتمالات في حرب غزة ما زالت مفتوحة، فالحسم الذي توقّع الناس أن تُسفر عنه زيارة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إلى إسرائيل والخطاب المتلفز الذي ألقاه السيد حسن نصر الله أمين عام “حزب الله” اللبناني لم يحدث.
فخطاب أمين عام “حزب الله”، لم يصل إلى حد إعلان دخول الحرب، لكنه لم يعلن أيضًا خروجه التام منها. لم يعلن توسيع نطاقها وتحويلها إلى حرب إقليمية، وبالتالي نحن ما زلنا بذلك –ضمنيًا – واقفين عند الخط الأحمر الأمريكي المُعلن منذ بداية زلزال “طوفان الأقصى”.
ولكنه لم يعلن أيضًا أنه سيظل ملتزمًا بقواعد الاشتباك المحدودة الراهنة وهذا الخط الأحمر حتى النهاية، فترك الباب مفتوحًا للتصعيد تبعًا لعاملين حدّدهما بـ”استمرار الفشل في وقف إطلاق النار، أو إذا بدا أنّ المقاومة الفلسطينية في غزّة ستُهزم ولن تنتصر”.
بلينكن أيضًا لم يحسم شيئًا ولم يستطع نهائيًا إغلاق فرص توسيع الحرب الإقليمية لأنّ حكومته ما زالت تمنح إسرائيل الضوء الأخضر لتحقيق هدف إبادة “حماس” وخلق سلطة جديدة تحل محلّها تحكم القطاع، وبالتالي لم يسعَ أبدًا إلى وقف إطلاق نار شامل وهو الحد الأدنى الذي يطالب به حلفاء واشنطن العرب لضمان استقرار حكوماتهم ويقدّم لهم مكسبًا سياسيًا يدعمهم أمام شعوبهم الغاضبة والمعادية لأمريكا ربما أكثر مما هي معادية لإسرائيل.
من وجهة نظر المصلحة الفلسطينية والعربية، هل هذا معناه أنّ الوضع الاستراتيجي للحرب بعد خطاب نصر الله ولقاء بلينكن/نتنياهو كما كان قبله؟.. يغامر هذا التقدير بالقول بأنّ تغييرًا نسبيًا محدودًا مرشّح للاستمرار ومرشّح للتراجع على ضوء تغيرات الوضع الميداني والانتقال مما وصفه أمين عام “حزب الله” من الغموض البنّاء إلى خيار صريح بتوسيع نطاق المواجهة وتغيير قواعد الاشتباك المحدود الحالي.
هذا التغيّر مبنيّ على حقائق هذا الصراع، وهي أنه مرتبط بوجود داعمين ومساندين لكلّ من طرفيّ الحرب المباشرين المشتبكين في الميدان، وهما المقاومة الفلسطينية البطلة صاحبة الحق وصاحبة نصر “طوفان الأقصى” العظيم، وجيش ودولة الاحتلال الإسرائيلي بجنون الانتقام الأعمى الذي فجّرته هزيمته المذلّة فجر السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي. وأنّ صلابة هذا الدعم الإقليمي والدولي وتطوّره، صعودًا وهبوطًا، وتلاقيه أو تباعده مع توقعات الطرف الأقرب إليه سيكون له تأثيره الهام على نتائج الحرب.
لكن لكي لا يستخف التحليل السياسي بالحقائق القائمة لا بد من الاعتراف بما يلي:
– الدول العربية وضعت نفسها مختارة على هامش الأزمة، ورفضت الهدية التاريخية التي منحها لها نصر “طوفان الأقصى” لتجاوز انقساماتها والوصول إلى حد أدنى مشترك، والأهم لزيادة الهامش المحدود من الاستقلال الوطني الذي انتزعته من الهيمنة الأمريكية على المنطقة في الـ٤٥ سنة الأخيرة منذ زيارة السادات إلى القدس في نوفمبر/تشرين الثاني 1977. رفض الهدية جعلها في هامش التأثير على الأحداث – أكبر دليل على هامشية دورها أنها تدعو لقمة عربية مقبلة بعد ٣٣ يومًا كاملة من عملية إبادة شعب عربي – وبات جل ما تقوم به هو أدوار وساطة محدودة يحتكرها ويحدّد قواعدها ويوجّه مساراتها الطرف الأمريكي بما يهدّد بأن تصب فوائدها لصالحه ولصالح إسرائيل.
– الصين وروسيا؛ وإن كانا قد انحازا في خطابهما السياسي ومواقفهما في مجلس الأمن الدولي إلى الحق الفلسطيني والعربي لكنهما توقفا عند ذلك ولم يستخدما عشر ما لديهما من موارد في مواقف الردع الاستراتيجية والإمدادات العسكرية التي تخلق توازنًا أكبر يمكن أن يجعل واشنطن تتراجع عن استفرادها بمجمل العملية السياسية الخاصة بالحرب، وهو استفراد قد يضيّع نصر ٧ أكتوبر/تشرين الأول 2023، كما تكفّل من قبل بإضاعة نصر أكتوبر العظيم في ٦ أكتوبر/تشرين الأول 1973.
بهذا المعنى يتبقى أمامنا طرفان خارجيان متواجهان يدعم كل منهما أحد طرفي الحرب. طرفان يمسك كل واحد منهما – إذا صحّ التعبير- بقرنَيّ الثور المسمّى الشرق الأوسط. الأول وهو الولايات المتحدة والمعسكر الغربي التابع لها بكل جبروته العسكري والاقتصادي. والثاني هي إيران كطرف إقليمي استثمر منذ العام ٧٩ في بناء تحالفات إقليمية بالعالم العربي، بعضها سنّي كالمقاومة الفلسطينية وبعضها شيعي كما هو الحال في العراق ولبنان.
الفارق الهائل في الموارد والقوى بين أمريكا وإيران ليس المشكلة الجوهرية، فالتسليح الأقل تقنيًا ليس من الترسانة الأمريكية بل من الترسانة الإسرائيلية عوّضته في ٧ أكتوبر/تشرين الأول شجاعة المقاومة وقدرتها المذهلة على المقاومة والمستوى غير المسبوق من التدريب والكفاءة، ولكن المشكلة هي في أنّ إيران التي لها تأثير غير منكور على القرار الإقليمي ما زالت في مرحلة عدم اتخاذ قرار استراتيجي بتوسيع نطاق الحرب، الذي لا يكف الأمريكان وأصدقاؤهم في المنطقة عن تذكير وترهيب طهران به نهارًا وليلًا منذ ٧ أكتوبر/تشرين الأول دون توقف.
مقابل انتفاء أي دور عربي مساند للمقاومة وشحوب الدعم الفعلي للصين وروسيا للمقاومة وسلوك ضبط النفس المقيّد إيرانيًا، نجد على الجهة الأخرى جموحًا أمريكيًا عسكريًا وسياسيًا في دعم إسرائيل لم تحد منه المجازر البشرية وحرب الإبادة لأكثر من ١١ ألف شهيد وما يزيد عن خمسة وعشرين ألف مصاب من المدنيين جلّهم من النساء والأطفال.
هذا الاختلال المؤقت في موازين القوى قد يزيد من طموح قوات الاحتلال والقوات الأمريكية الخاصة التي تحارب معها في تحقيق هدف أساسي لها وهو فصل شمال قطاع غزّة عن جنوبه، تدعي به أنها انتصرت وخلقت وضعًا جديدًا على الأرض لصالحها. وبالتالي تمنع الفلسطينيين والعرب من ترجمة نصر “طوفان الأقصى” وهزيمة إسرائيل الساحقة فيه إلى نصر سياسي للشعب الفلسطيني وحقّه في الحد الأدنى في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس.
بعبارة أوضح؛ فإنّ سلوك التحفّظ والتقيّد الراهن الذي تلتزم به طهران كداعم إقليمي للمقاومة في غزّة هو سلاح ذو حدين، فالخوف أنه حتى في حال قرّر أن ينهي القيود ويغيّر موقفه نحو سلوك الانخراط في الحرب وتوسيع نطاقها قد يكون الأوان قد فات. ففي الحروب تحدث تطورات تفرض حقائق غير مرغوب فيها على الأرض قد تعطي العدو الإسرائيلي فرصة لادعاء النصر تكتيكيًا رغم هزيمته الاستراتيجية.
قارن مثلًا كيف يستمر الجسر العسكري الجوي الأمريكي لإسرائيل (١٠٠ طن) رغم أنها تحارب ثلّة مقاومين شجعان تمامًا كما كان الحال في حرب أكتوبر ٧٣، وكيف لا نجد هنا جسرًا جويًا دوليًا موازيًا واصلاً إلى غزّة كما كان هناك جسر سوفييتي لمصر وسوريا، وبالتالي لا يتم استعواض ترسانة المقاومة التي استخدمتها في نصر “طوفان الأقصى” أو في مواجهة العدو وتغلغله البري الحالي.