بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري
نقلًا عن موقع عُمان
أبدى كتّاب عرب شماتة في موقف التقيد الاستراتيجي لإيران وحلفائها في المنطقة وعدم قيامهم بتوسيع نطاق الحرب في غزة إلى حرب إقليمية شاملة.
هؤلاء الكتاب استخدموا بشكل مضلل المثل العربي الشهير «النائحة الثكلى ليست كالنائحة المستأجرة» لوصف موقف حسن نصر الله؛ ربما لأن موقفهم مُعادٍ من الأساس لفكرة المقاومة ويرون فيها عقبة تعطل قطار التطبيع المندفع.
ينسى الجميع هنا واقع أن اعتماد النظام العربي الرسمي منذ ٧٧ السلام خيارا وحيدا لم يترك للمقاومة الفلسطينية -بتعبيرات يحيى السنوار- على مدى ٤ عقود تقريبًا داعمًا سوى إيران سواء في إمدادات السلاح أو في خبرات وتقنية تصنيعه. الحقيقة أكثر تعقيدا بكثير من التبسيط المخل عن «نائحات»، إذ توجد مجموعة من العوامل البنيوية المتجذرة من جهة والعوامل الدولية والإقليمية التي ترافقت مع الأزمة من جهة أخرى هي التي جعلت «حسابات» حماس في شن هجوم ٧ أكتوبر المظفر سهلة وبسيطة وحسابات محور الممانعة معقدة وصعبة.
العوامل البنيوية
– الدور المركزي للقيادة العسكرية لحماس في قطاع غزة في عملية صنع القرار للحركة: انتقلت القيادة الفعلية للقادة العسكريين لحماس تحت تأثير تضافر عدة متغيرات منها مثلا استشهاد القيادة السياسية الكاريزمية لمؤسس حماس الشيخ أحمد ياسين وانسحاب إسرائيل الأحادي من قطاع غزة ٢٠٠٥ واستيلاء كتائب الجناح العسكري لحماس على غزة ٢٠٠٧ ثم حكمه وإدارته منذ ذلك الوقت. انسداد الأفق السياسي لعملية أوسلو، وتحمل مقاتلي حماس وباقي فصائل المقاومة عبء خمسة حروب عدوانية إسرائيلية على القطاع. هذا الانتقال التدريجي لسلطات صنع القرار للعسكريين والقادة المحليين في غزة جعل دور قيادة حماس السياسية هو تأمين التفاهمات السياسية مع الإطار الإقليمي والدولي والتعبير السياسي الإعلامي عن مواقف الحركة. وترك قرار للحرب لمن هم على الأرض والأدرى بجغرافيا ولوجستيات الصراع العسكري. أي في الوقت الراهن ليحيى السنوار ومحمد ضيف ومروان عيسى. لهذا تحققت المباغتة الاستراتيجية في ٧ أكتوبر التي أذلت إسرائيل جيشًا ومخابرات وقيادة سياسية فهي لم تخبر مسبقا بها لا إيران ولا حزب الله، ولم تخبر بها حتى قيادتها السياسية في الخارج. لو نظرت لحزب الله مثلا ستجد العكس تماما وهو أن كاريزما قيادته السياسية المتمثلة في أمينه العام حسن نصر الله مهيمنة على صنع القرار مهما ضم في صفوفه من أساطير عسكرية مثل الراحل عماد مغنية.
العلاقة مع إيران مختلفة:
التحالف بين حماس والجهاد من ناحية وإيران من ناحية ثانية له طبيعة مختلفة بدرجة تسمح للفصائل الفلسطينية بهامش استقلال كبير في قرارها العسكري والسياسي. فصائل المقاومة الفلسطينية «سنية» وليست شيعية وهدف إيران في الاستثمار الصبور المثابر فيها هو تأكيد علاقات طبيعية وودية مع محيطها السني الكبير، والثقة في أن دعم المقاومة يمنع عدوتها الإقليمية إسرائيل من الهيمنة على المنطقة، وتهديد مصالح ونفوذ إيران الإقليمية. لكن حزب الله والفصائل الشيعية في العراق وعلى الرغم من أنهم عرب وليسوا فرسا، إلا أن توافقهم في المذهب وفي اتباع ولاية الفقيه تجعل قراراتهم مرتبطة بعملية التنسيق المسبق مع طهران خاصة لو كان الأمر يتخطى ساحاتهم المحلية ويمتد للتأثير على توازنات الإقليم واستقرار إيران كما ينطبق عليه الحال في حرب غزة التي تدخل أسبوعها السابع وهي مصنفة كأخطر أزمة دولية راهنة.
الحاضنة الشعبية
الحاضنة الشعبية لحماس والجهاد ليس فقط في غزة بل في الضفة الغربية، أيضا، هي بيئة حامية للمقاومة ومؤمنة بها سبيلا وحيدا لاسترداد الحقوق المشروعة. وتحملت الأسر في هذه الحاضنة فقدان الآلاف من الأحباء وتدمير غزة عدة مرات ولم تنقلب في مرة واحدة منها على المقاومة كما تمنت إسرائيل. وبالتالي فإن السنوار ورفاقه كانوا مطمئنين عند اتخاذ قرار الحرب الأخطر فلسطينيا أن الجبهة الداخلية ستكون من ورائهم سدا منيعا، أما حزب الله فهو في وضع شائك لبنانيا ربما باستثناء الحاضنة الشعبية في الجنوب والضاحية مؤيدة للحزب. فتغلغل النفوذ الإسرائيلي في قسم من النخب السياسية المسيحية والإسلامية اللبنانية وتحول طاقة السنة في لبنان بعد اتفاق الطائف لمنافسة النفوذ السياسي لحزب الله جعل جزءا لا يستهان به من الحاضنة الشعبية اللبنانية وحتى في المؤسسة العسكرية- الأمنية رافضا لانخراط حزب الله في حرب جديدة مع إسرائيل من أجل غزة.
بشكل يومي تلقى نصر الله في الخمسين يوما الأخيرة ومنذ ٧ أكتوبر التحذير من جر لبنان إلى حرب من قيادات في القوات اللبنانية وقيادات سنية ودرزية لها تأثير غير قليل على جمهور أنهكته أزمة اقتصادية طاحنة.
عوامل الأزمة والتحرك الأمريكي
فقدان عنصر المفاجأة عند حزب الله: التكتم الشديد الذي كان سببا رئيسيا في مباغتة إسرائيل وأخذهم على غرة وإذلالها بهجوم ٧ أكتوبر كان من آثاره الجانبية أن حزب الله لم يعلم به مسبقا وبالتالي لم يعد قادرا على شن الحرب على الجبهة الشمالية في الوقت نفسه ويحقق هو كذلك مفاجآت أخرى ويلحق بإسرائيل هزيمة مماثلة في نفس اليوم؛ فلقد أفاقت إسرائيل من غفلتها واستدعت احتياطيها ودفعت بنحو ثلث قواتها إلى الحدود مع جنوب لبنان. ولا بد أن ضياع ميزة المباغتة جعل حزب الله من منظور عسكري بحت أقل اندفاعا نحو قرار حرب باتت متوقعة تهيأ لها عدوه وحشد لها.
العصا والجزرة الأمريكية
لا بد من الاعتراف بأن رد الفعل الأمريكي شديد الغضب شديد السرعة قد شكل قيدا حقيقيا على سلوك محور الممانعة وقيادته. فلقد جعل الأمريكيون إيران وحلفاءها في المقاومة يدركون بوضوح أنها مستعدة للوصول إلى أبعد مدى ممكن في استخدام قوتها الكاسحة في هذه الأزمة.
إرسال حاملتي الطائرات فورد وايزنهاور والغواصة النووية أوهايو «تم تسريب إعلامي أنها محملة بصواريخ قادرة على تدمير ٦ مدن كبرى مثل المدن الإيرانية» لم يكن كافيا لإشهار العصا في وجه إيران ولكن اقترن ذلك بتهديدات صريحة أمريكية وإسرائيلية عن استعدادهم لإبادة لبنان وتحويله لغزة ثانية.. وتلميحات واضحة أن إيران نفسها ومدنها ستدفع ثمن أي انتقال خطير لحرب إقليمية.
لكن العصا رافقها أيضا، تلويح بالجزرة خاصة مبلغ الـ ٦ مليارات دولار من الودائع الإيرانية المحتجزة وسبق لواشنطن تحويلها لقطر. فقد تحركت أمريكا بسرعة وبعد أيام قليلة من عملية ٧ أكتوبر لتوقيع اتفاق مع الدوحة مفاده تجميد تحويل هذه الأموال لإيران والمعنى واضح بأن واشنطن جمدت صرفها حتى تتأكد من أن طهران ستلتزم بعدم السماح بتوسيع الحرب.
لقد وجهت إيران ومحور الممانعة طاقتهم في دعم غزة من خلال تسخين محسوب لهجمات على شمال إسرائيل وعلى أهداف أمريكية تبقى دون عتبة الحرب لكن توفر نوعا من الضغط على واشنطن لدفعها في اتجاه وقف العدوان.. وربما اعتبر المحور انصياع إسرائيل للهدنة التي تنتهي غدا ولكن قابلة للتمديد بمثابة إنجاز معقول لاستراتيجيتها.