مختارات

العرب والحرب الأوكرانية: إخفاق… وفرصة تاريخية!

باعتراف كل التقارير الاقتصادية الدولية، فإن الدول العربية، ورغم بعدها الجغرافي الشاسع عن ميدان الحرب الروسية/الأوكرانية، خاصة دول شمال أفريقيا وكل من لبنان وسوريا والأردن واليمن في آسيا، كانت من أكثر مناطق العالم تأثرًا بهذه الحرب.

هذه المفارقة المثيرة للعجب يزول عجبها فورًا عندما تعرف أنّ الحرب وضعت عددًا كبيرًا من الدول العربية أمام أزمة غذاء حقيقية وصلت إلى حد التحذير من أنها قد تؤدي إلى مجاعة جزئية في بعض البلدان، وهو ما يمكن القول بأنه تحقق بصورة أو بأخرى في اليمن التي زادت فيها أعداد المرشحين للموت جوعًا بشكل ملموس.

أزمة الحرب، التي يشكل طرفاها الروسي والأوكراني أكبر مصدرين لواردات القمح والذرة والزيوت لكثير من الدول العربية، أدّت إلى تعطًل سلاسل إمدادها، محدثةً نقصًا شديدًا في الكميات، وبالتالي قادت إلى ارتفاع جنوني في أسعارها.

الحرب كانت كاشفة لعورة الاقتصاد العربي كله، سواء كان اقتصادًا غنيًا كدول الخليج أو متوسطًا مثل مصر والجزائر أو فقيرًا مثل اليمن وسوريا حاليًا. فقد ثبت أن جميعها قد فشلت فشلًا ذريعًا في تحقيق مطلب أساسي للأمن الوطني والاستقرار السياسي، ألا وهو مطلب الأمن الغذائي لشعوبها وأنها كلها بلا استثناء تقريبًا لديها فجوة غذائية مخيفة بين احتياجات شعوبها من السلع الغذائية وبين انتاجها المحلي، وأنها كلها بلا استثناء جعلت نفسها مكشوفة بلا درع يحميها وواقعة تحت رحمة كل الأزمات العالمية.

القمح

كشفت الأزمة الأوكرانية هشاشة تجارب التنمية العربية، فدول المنطقة التي كانت قد بدأت في مرحلة ما تجربة واعدة للتصنيع وإحلال الواردات وتحجيم دور الديون الخارجية في عملية التنمية انتكست جميعها وأصبحت دولا تابعة للمركز الرأسمالي الغربي غارقة في الديون تستورد أكثر مما تصدر بكثير، وفضحت الأزمة فقط ولكن بقسوة الاختلالات الهيكلية المزمنة لديها فوقعت فريسة في براثن كل تجليات الأزمة السلبية، ربما أكثر من الطرفين المتحاربين، من ارتفاع التضخم وزيادة في عجز ميزان التجارة والمدفوعات وهبوط حاد في سعر العملة الوطنية وبالتالي ارتفاع قيمة وتكلفة أقساط وخدمة الديون الأجنبية.

بعبارة أخرى مكّنت هشاشة هذه الاقتصادات في القطاعات السلعية -الصناعة والزراعة- واعتمادها المتزايد على القطاعات الريعية أزمة أوكرانيا من رقبتها، تنهش مواطنيها نهشًا ما يجعلها الآن عرضة لمستويات مقلقة من التوتر الاجتماعي والسياسي تهدد استقرار الحكومات القائمة فيها.

وحتى الدول النفطية التي خرجت رابحة من الأزمة بسبب ارتفاع أسعار البترول والغاز مثل دول مجلس التعاون الست، وإلى حد ما العراق وليبيا والجزائر، إنما استطاعت حماية استقرارها السياسي بتوجيه جزء معتبر من أرباحها إلى حماية مواطنيها من فاتورة التضخم وارتفاع أسعار الغذاء، وحتى الفوائض التي حققتها الدول العربية النفطية والتي عادة ما يعقبها في مرحلة أخرى دورة انخفاض في أسعار الطاقة وتآكل في الفوائض، تمثل مؤشرًا في حد ذاتها على أن هذه الدول ما زالت بعيدة كل البعد عن مجرد الاقتراب من هدفها المعلن منذ أكثر من ٣ عقود ألا وهو تنويع مصادر دخلها وتقليل اعتمادها المفرط على النفط .

حقول النفط
حقول النفط

تحويل المحنة إلى منحة والخسارة إلى مكسب

في مقابل الاضطراب على الصعيد الاقتصادي، فإن الأزمة الأوكرانية طرحت على صعيد السياسة والجيو استراتيجي آثارًا إيجابية على العالم العربي، فتكاد تعطي الفرصة لتحويل محنة الأزمة إلى منحة وتكاد تعطي العالم العربي فرصة نادرة لإعادة تموضعه في النظام الدولي بما ينهي أو على الأقل يقلل التراجع المشين في وزنه وتأثيره في الشؤون الدولية وما جرى من استباحة القوى الدولية والإقليمية له في العقود الأربعة الأخيرة، محولة إياه إلى ساحة للغزو المباشر أو حروب الوكالة أو تمركز قوات أجنبية على أراضي بعض دوله:

بالنظر لأنّ روسيا -أحد أطراف الحرب- هي منتج رئيسي للنفط والغاز، وبالنظر للعقوبات التي فرضها التحالف الغربي والتي شملت تقليل اعتماد أوروبا المفرط على إمدادات الطاقة الروسية، وتوجهت بالتالي إلى المنطقة العربية -أحد أكبر مصادر النفط في العالم القريبة من أوروبا- فإن القيمة الاستراتيجية للسعودية -أكبر منتج ومصدر مرن للنفط في العالم- خصوصًا، ولدول مجلس التعاون وليبيا والعراق والجزائر، زادت بصورة ملحوظة.

ويمكن القول إن السعودية أصبحت لاعبًا استراتيجيًا عالميًا ذا نفوذ في الشؤون الدولية بعد حرب أوكرانيا، خاصة وهي تنسق مع روسيا في إطار صيغة “أوبك بلس”، فباتت طرفًا حاكمًا في تحديد المعروض النفطي، ومن ثم طرفًا حاكمًا في تحديد أسعاره ولم تستجب في هذا الصدد للضغوط الأمريكية لزيادة كميات وخفض أسعار النفط الذي تعتبره واشنطن، مع عوامل أخرى ولّدتها الحرب، سببًا في أسوأ معدلات التضخم التي يواجهها الغرب.

الخليج
الخليج

بدون تردد يمكن القول إنّ الحرب الأوكرانية أعادت للعرب ومنطقتهم القيمة الجيوستراتيجية التي يستحقونها لدى القوى الكبرى. فهذه الحرب التي يعلم الجميع أنها في حقيقتها حرب وكالة بين أمريكا والغرب من جهة والصين وروسيا من جهة أخرى، يحاول فيها الطرف الأول إبقاء هيمنته الأحادية على العالم، ويحاول الطرف الثاني بناء نظام دولي متعدد الأقطاب بما يستجيب لواقع تراجع مساهمة الغرب في الاقتصاد العالمي لصالح الصين والهند وروسيا والبرازيل ودول أخرى كثيرة. في إطار هذا الصراع أنهت بكين بعد حرب أوكرانيا تحوطها وحذرها الاستراتيجي التقليدي وانتقلت من خانة الاكتفاء بالعلاقات الاقتصادية إلى دور الوسيط السياسي النشط كما أظهر إنجازه الدبلوماسي الأكبر في الوساطة بين إيران والسعودية لحل نزاعهما سلميًا، وهو نزاع يعرف الجميع أنه كان مصدرًا لكثير من النزاعات والتوترات من اليمن إلى العراق ومن لبنان إلى سوريا.

وعادت الولايات المتحدة متأخرة وبدون نجاح كبير تنشط في محاولة لاستعادة الفراغ الذي تركته بعد أن أعلنت استراتيجية سابقة تنقل اهتمامها إلى المحيطين الهادئ والهندي وتخفف حضورها الشرق أوسطي لمواجهة ما تسميه التهديد الصيني لانفرادها بالشؤون العالمية.

صعود الأهمية الجيوسياسية العربية لم يقتصر على السعودية أكبر مصدر للنفط في العالم ولا قطر ثاني مصدر عالمي للغاز، بل امتد حتى لدول رئيسية مثل مصر التي زادت متاعبها الاقتصادية بعد حرب أوكرانيا، ولكن تمثل بموقعها وعمقها التاريخي وتحكمها في أهم طرق الملاحة البحرية مجالًا لحسم المنافسة الجيوستراتيجية بين الغرب والصين وروسيا. وتعطي نظرة على وتائر التواصل والاهتمام الصيني والروسي الاقتصادي والسياسي بالقاهرة في العام ونصف العام المنصرم مؤشرًا حاسمًا في هذا الاتجاه.

ما زاد من فرص مفارقة العرب وضعهم الدولي البائس الذين يرزحون فيه منذ انقسامهم على صلح السادات مع إسرائيل، هو اتفاقهم لأول مرة ودون تنسيق مسبق على موقف شبه مشترك من الأزمة الأوكرانية، ألا وهو الموقف البراغماتي الذي يضع المصلحة الوطنية فوق إملاءات واشنطن التقليدية على حلفائها العرب.

لم يخيب العرب فقط ظن واشنطن برفض الانضمام اقتصاديًا إلى عقوبات الغرب على روسيا ولا برفض مقاطعة وعزل موسكو سياسيًا، ولكن أيضًا باستمرار التنسيق النفطي مع روسيا وزيادة المبادلات التجارية معها والمضي قدمًا في الحصول على أسلحة روسية. على أن التطور الجيوستراتيجي الأهم كان في العلاقات الصينية العربية عامة والصينية السعودية خاصة التي لم تعد كما جرت الإشارة قائمة على الاقتصاد بل تم إدخال بكين طرفًا في تحقيق الأمن الإقليمي، خاصة بين ضفتي الخليج حيث مضيق هرمز أهم ممر ملاحي لواردات النفط الحاسمة لاستمرار النمو الصناعي للعملاق الصيني.

روسيا

اتجاه عربي براغماتي مشترك لتوسيع هامش المناورة السياسية وعدم الاكتفاء بالمعسكر الغربي زاد بقوة بعد أزمة سلاسل الإمداد الغذائي والحبوب من طرفي الحرب، تمثل في دفع دول عربية عديدة للانضمام للتجمعين الاقتصاديين العالميين “شنغهاي وبريكس” اللذين تقودهما الصين، بهدف صريح هو إنهاء هيمنة واشنطن والدولار ومؤسسات التمويل الدولية التابعة لها على الاقتصاد العالمي. لا يشمل طلب العضوية دولًا حليفة للصين وروسيا مثل الجزائر فحسب، بل يضم أقرب حلفاء واشنطن مثل السعودية ومصر والإمارات والبحرين.

بعبارة أخرى ترسل الدول العربية رسالة لواشنطن لأول مرة أنها تتفق مع التوجه الصيني الروسي وتوجه دول الجنوب عامة المشروع لإقامة نظام متعدد الأقطاب تلعب فيه المصالح المشتركة وليس الاستقطاب بين الغرب وخصومه الصاعدين الدور الحاسم في مفاضلات الشراكة لنخب الحكم العربية.

لأول مرة أيضًا منذ عقود عديدة تتفق المواقف الرسمية العربية في السياسة الخارجية تجاه أزمة دولية أو إقليمية مع الاتجاه الساحق للرأي العام العربي الذي كان قد افترق أو كاد عن حكوماته بعد تهميشها لمركزية القضية الفلسطينية وتطبيع بعضها المجاني مع دولة الاحتلال الإسرائيلي وتهاونها في التضامن ضد التدخل الغربي المباشر في العراق وليبيا وسوريا ودول أخرى. فكل استطلاعات الرأي العربي خاصة لشبابه الذي يمثل نحو ٦٠٪ من سكان شعوبه تسجل عدم تعاطف مع الموقف الغربي في أزمة أوكرانيا وتعتبره نموذجًا صارخًا على إزدواج المعايير، إذا يقارنونه بموقفه المعادي لحق الشعب الفلسطيني في الدفاع عن النفس ومقاومة المحتل. ويميل الرأي العام العربي لحقيقة أن أوكرانيا “حرب أنانية” بالوكالة لكي يبقى الغرب على هيمنته مهما سقط من ضحايا ومهما تدهور الاقتصاد العالمي ووصل بدول في الجنوب إلى حافة الإفلاس.

التحسّن النسبي في استقلال قرار السياسة الخارجية يعطي للعرب وضعًا تفاوضيًا متميزًا للحفاظ على مصالحهم وثرواتهم
كما تميل الشعوب العربية إلى تفضيل ألا تنتهي الحرب بهزيمة روسيا في هذه الحرب لأن ذلك يعني بقاء المنطقة تحت الهيمنة الغربية والإسرائيلية. لأول مرة منذ سنوات يكتسب قرار السياسة الخارجية العربية دعمًا شعبيًا وهو أحد أهم قدرات أي سياسة خارجية على إحداث التأثير التي تريد.

هذا التحسن النسبي في استقلال قرار السياسة الخارجية للدول العربية عن الهيمنة الغربية يمنحها فرصة ذهبية ليس فقط للمضي قدمًا في اتجاه استعادة الاستقرار الإقليمي وتبريد وحل النزاعات التي ساهم الغرب في تأجيجها في السنوات الماضية بين العرب وإيران والعرب وتركيا وداخل الدول العربية نفسها، ولكن يعطي للعرب وضعًا تفاوضيًا متميزًا للحفاظ على مصالحهم وثرواتهم في العملية الحتمية – طال وقتها أم قصر- لنشوء نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب يستطيعون فيه الحصول على مكانة كادوا أن يحصلوا عليها في لحظة فريدة قبل ٥٠ عامًا بعد حرب أكتوبر ١٩٧٣ حين عد العرب وقتها القوة السادسة في العالم وفرضوا لغتهم العربية لغة دولية في الأمم المتحدة وعزلوا إسرائيل بقرار أممي آخر ساوى بين الصهيونية والعنصرية. فرصة أضاعها العرب أمس ولعلهم لا يضيعون فرصة اليوم أيضًا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock