بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري
نقلًا عن موقع عروبة 22
قبل أن تسكت المدافع ويُنفض غبار الحرب في غزّة التي أطلقها هجوم المقاومة المظفر في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، لا يستطيع أحد أن يقطع بنتيجة إستراتيجية حاسمة على كل مسارات الحرب الثنائية والاقليمية والدولية.
التغيّرات التي ستلحق بالعلاقات “المصرية – الإسرائيلية” نتيجة “طوفان الأقصى”، ليست استثناء من هذا القانون، خاصة من ناحية ما إذا كانت هذه التغيّرات ستكون عميقة ومبدلة للنمط الذي اتصفت به منذ معاهدة السلام في ١٩٧٩، أم أنها ستكون طفيفة غير مؤثرة وستنتهي بنهاية الحرب.
على أنّ تقدير الموقف هذا يغامر بالقول بأنّ أغلب التغيّرات التي لحقت بعلاقات القاهرة وتل أبيب منذ بدء العدوان الانتقامي، إنما كانت تغيّرات سلبية لدرجة أنها عرضت سياسات خارجية وسياسات أمن قومي مصرية مستقرة في العقود الأربعة ونصف لكثير من الاهتزاز وانعدام الثقة.
معاهدة السلام ليست راسخة
تعايشت الإدارة المصرية منذ عهد السادات مع حقيقة التفاوت بين موقفها الرسمي وموقف الشعب المصري الذي ظلّ يرفض التطبيع ويصر على أنّ إسرائيل هي العدو الأول لمصر والتهديد الرئيسي لأمنها القومي، إلا أنّ هذه الإدارة ظلّت مقتنعة أنه وعلى الرغم من ذلك فإنّ معاهدة السلام مع إسرائيل دائمة وراسخة وغير قابلة للفسخ، وبالتالي فإنّ حرب أكتوبر/تشرين الأول ١٩٧٣ هي آخر الحروب “النظامية” مع إسرائيل، وتعاملت على أنه بمقدورها كنخبة حاكمة التركيز على مشكلات مصر الداخلية. على أنّ هذه النخبة ربما تكون في واقع الأمر قد تعرّضت لصدمة كبيرة مما بدا أنه إصرار إسرائيلي بدعم أمريكي على استغلال حرب غزّة الحالية في تنفيذ مخطّط تهجير قسري للفلسطينيين من القطاع إلى سيناء، في خرق صريح للمادتين ٢ و٣ من المعاهدة بعدم تهديد سيادة وأمن وحدود الطرف الآخر.
محاولات تغيير العقيدة العسكرية المصرية التي كانت تعمل عليها الدورات الأمريكية ربما تكون قد تجمّدت
اتضح للإدارة المصرية أنّ “فرضية” تم الترويج لها بشكل مبالغ فيه من أنّ إسرائيل دولة تحترم معاهداتها، هي فرضية غير حقيقية، وأنه في سبيل حلمها المجنون بتصفية القضية الفلسطينية وإقامة دولة يهودية نقية من البحر إلى النهر مستعدة لأن تدوس بأحذية جيشها على أي معاهدة.
لقد تصاعد التوتر من المستوى السياسي إلى المستوى العسكري، وسمعنا لأول مرة منذ أربعة عقود ونصف خطابًا مصريًا يلمح إلى أنّ حرب أكتوبر قد لا تكون فعلًا آخر الحروب. فيقول مسؤولون مصريون إنهم سيمنعون مخطط إسرائيل للتهجير إلى سيناء مهما كانت النتائج وإن التجبّر الإسرائيلي في فرض المخطط قد يجر إلى مواجهة عسكرية.
ما زالت الإدارة المصرية على موقفها من أنّ خيار إلغاء المعاهدة ونشوب الحرب غير موضوعين على الطاولة، ولكن لأول مرة ينفتح ثقب صغير في جدار حصانة المعاهدة وحصانة عدم اللجوء للقوة العسكرية بين الدولة العربية الكبرى وإسرائيل. الأهم من ذلك أنّ محاولات تغيير العقيدة العسكرية المصرية التي كانت تعمل عليها الجهود والدورات الأمريكية في العقود الماضية ربما تكون قد تجمّدت في هذه المرحلة.
العودة إلى حدود السلام البارد وربما أقل
منذ أن روّج مطبّعون مصريون لنظرية مفادها أنّ إسرائيل لعبت دورًا رئيسيًا في إنهاء التوتر بين القاهرة وواشنطن عقب الإطاحة بحكم الإخوان في ٣٠ يونيو، ومنذ أن بدأت السلطات المصرية في مواجهة التنظيمات الإرهابية بسيناء، انتقلت العلاقات “المصرية -الإسرائيلية” إلى مستوى لم تبلغه من قبل، تمثّل في قبول إسرائيل انتشارًا عسكريًا مصريًا يزيد بكثير عما قيّدت به المعاهدة مصر، وفي تعاون أمني لمنع انتقال جماعات الإرهاب عبر المعابر والحدود بين البلدين.
المستوى غير المسبوق من التعاون الأمني بعد ٢٠١٤ قد يكون مهددًا بعدم المواصلة بعد الحرب
ومع هذا التطور سعت مجموعات التطبيع المصرية لتحويل هذا الوضع الجديد إلى مفهوم عقائدي مستقر وليس تعاونًا طارئًا، ألا وهو أنّ إسرائيل يمكن أن تكون شريكًا دائمًا وليس فقط عدوًا سابقًا. هذا المفهوم الذي كان يكسب أرضًا كل يوم عن طريق التسلل الخبيث، ربما تعرّض لضربة قاسية نتيجة لتصريحات “أولاد العم” في الأزمة الحالية من أول وزير المالية وحتى افتضاح خطة رسمية أعدتها المخابرات لفرض التهجير القسري. هذا المستوى غير المسبوق من التعاون الأمني بعد ٢٠١٤ والحديث عن شراكة قد يكون مهددًا بعدم المواصلة بعد الحرب.
تعريض الاستقرار السياسي المصري لتحديات
ربما باستثناء الأيام القليلة الأولى من الحرب التي ربما كان اللوم الصامت داخل الإدارة المصرية منصبًا على “حماس” وتعريضها استقرار حدود مصر الشرقية للاهتزاز بعد فترة هدوء امتدت عامين، فإنّ اللوم بل والغضب تحوّل نحو إسرائيل بعد اشتداد وتيرة عدوانها الوحشي على المدنيين وجريمة الحرب في قطع المياه والغذاء والكهرباء عن ما يزيد عن ٢ مليون فلسطيني في القطاع. فالحكومة المصرية تعرف أنّ التضخّم والغلاء في الداخل يمثّلان ضغطًا مهمًا على شعبيتها وهي لا تحتاج إلى توترات سياسية تضاف للاقتصاد تمارس ضغطًا أكبر على هذه الشعبية المتناقصة منذ اندلاع حرب أوكرانيا خصوصًا.
تعرف الحكومة المصرية هنا أكثر من غيرها، أنّ استمرار المجزرة التي يتعرّض لها الفلسطينيون يمكن أن توسع أكثر الهوة بين الموقف الشعبي والموقف الرسمي. وهي تعلم من خبرات حكم مبارك أنه مع اختفاء السياسة في الجامعة والأحزاب المصرية كانت المظاهرات الشعبية للتضامن مع الانتفاضتين الأولى والثانية وضد حروب إسرائيل العدوانية الأربعة على غزّة منذ ٢٠٠٨ كانت هي المصنع السياسي الذي تبلورت فيه حركات معارضة للحكومة مثل “كفاية” و”الجمعية الوطنية للتغيير”.. إلخ. وهنا لا يمكن لنظام حكم – أي نظام حكم – أن يتسامح مع كيان مجاور وقّع معه معاهدة صلح أن يكون هو لا غيره بأعماله العدوانية مصدرًا لهز استقراره وخلق أزمة شرعية داخلية له.
فتح كل الجروح المتقيحة
أهاجت العدوانية الإسرائيلية على شعب شقيق، ومخطط التهجير القسري الذي يدمّر السيادة والأمن المصريين، كل الجروح المتقيحة لدى المصريين من عملية التسوية غير المنصفة مع إسرائيل، ومن ذلك كيف وصلت مصر التي كانت عام 1970 تتفوّق اقتصاديًا على دولة الاحتلال إلى أنها وصلت بمئة عشرة مليون نسمة لنصف اقتصاد إسرائيل بملايينها السبعة أو التسعة؟!.. وكيف أنّ إسرائيل سرقت دور مصر الإقليمي فتقدّمت هي وإيران وتركيا – لأسباب مختلفة – لتحتل مكان القاهرة عربيًا وشرق أوسطيًا وأفريقيًا.
ضربة التهميش الكبرى جاءت في اتفاق تطبيع لإقامة ممر أو خط سكك حديد يهدد دور مصر وقناة السويس
جددت الأزمة جرحًا ما زال طازجًا عند المصريين وهو تهميش إسرائيل لمصر منذ ما يسمى بالسلام الإبراهيمي، فبدلًا من الاتفاق غير المكتوب أن تكون مصر أول وأكبر من عقد معها معاهدة سلام هي الوسيط بين تل أبيب وأي بلد عربي، انتقلت إسرائيل خاصة منذ الاتفاقيات الإبراهيمية للتعامل المباشر مع البلدان العربية، بل واعتبرت أنّ المغرب ودول الخليج الغنية أولوية تفوق مصر، خاصة في شراكات الاقتصاد ومبيعات السلاح واتفاقات التنسيق الأمني الذي تخطى كل الموانع والحدود.
وجاءت ضربة التهميش الكبرى في اتفاق تطبيع إسرائيلي منتظر مع السعودية لإقامة ممر أو خط سكك حديد يهدد دور مصر وقناة السويس كأهم مفصل وممر للتجارة الدولية بين الخليج والهند وأوروبا ويحوّلها بعبارات نتنياهو نفسه لدور لإسرائيل.