رؤى

المقاومة أعادته إلى الذاكرة.. سَلَمَةَ بن الأَكْوَع جيش بأكمله في إهاب رجل!

حين صرخ مجاهد سرايا القدس “ولعت.. ولعت” وهو يخطو في الهواء خطوات واسعة، حاملا سلاحه المضاد للدبابات، في ملابس مدنية بسيطة وحذاء خفيف مفتوح (بابوج) كأنما كان يثب من أعماق التاريخ؛ ليمحو ركاما هائلا من أكاذيب الرضوخ والاستسلام والاستضعاف التي راجت بين أبناء أمتنا المكلومة عبر عقود طويلة كئيبة ناهزت الخمسة عقود؛ مع مقولة “آخر الحروب” التي أراد قائلها أن يصنع لها سياقا يُفرض قسرا؛ دون أدنى درجة من الواقعية، في ظل وجود عدوٍ لا يكف عن الإجرام الوحشي والعربدة المستهينة في الأرض العربية التي احتلها.

استدعى المشهد الرائع للمجاهد الطائر إلى الذاكرة قصة رجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- قيل عنه أنه كان يسبق الخيل لشدة سرعته في العَدْو.. أما عن بأسه وقوة عزمه فحدث ولا حرج.. وإذا رأيت موقعه من الحبيب محمد لعجبت إذ كان مُقربا ومُؤتمنا ومحل ثقة وتقدير.. لدرجة أن الهادي البشير كان يردفه وَرَاءَهُ علَى ناقته العَضْبَاءِ.

أبو إياس سلمة بن عمرو بن الأكوع.. رجل جمع الفضائل فما غادر منها واحدة.. فهو الذي “ما كذب قط” كما قال عنه ابنه إياس، وهو المقاتل المثابر الذي لا يني، ولا يتخاذل ولا ينال منه الجهد.. حتى إن رسول الله ليعجب من دأبه في قتال أعداء الله، كما كان سلمة من رماة العرب المعدودين، فنادرا ما كان يُخطئ سهم له هدفه.. وهو فوق ذلك مضرب المثل في الشجاعة والكرم.. وفي المبادرة إلى الطاعات وفعل الخيرات.

يروي سلمة موقف الرسول منه يوم بيعة الرضوان إذ بايع سلمة في أول الناس، ثم طلب منه الحبيب محمد أن يبايعه في أوسط الناس ففعل، ثم في آخر المبايعين فلبى؛ ليكون له من الفضل ما لم يكن لغيره.. وقد سئل سلمة عن ما بايع عليه رسول الله، فقال: “بايعناه على الموت”.

قال تعالى: “لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح:18].

لقد لازمت السكينة قلب سلمة في كل المواقف، وصار من رضوان الله وعنايته به كالطير في عليائه، لا يؤرّق لأمر من أمور الدنيا.. لا همّ له إلا نُصرة الدين، والذَّبِّ عن المعصوم صلى الله عليه وسلم.. وعن كل ما له صلة به.

يروي سلمة كيف استعاد لِقاح (إبل حلوب) رسول الله بمفرده بعد أن استلبها عيينة بن حصن الفزاري ومعه جماعة من قومه.. عدا سلمة خلف القوم يرميهم بالنبل فيرديهم واحدا تلو الآخر.. حتى استعاد اللفاح كاملة وكانت حوالي عشرين ناقة.. ثم واصل الهجوم على هؤلاء اللصوص وهم يفرون أمامه يتخففون مما يحملون طمعا في النجاة؛ حتى غنم منهم نحوا من ثلاثين بُردة وثلاثين رُمحا.. وظل سلمة يقاتل حتى نفدت سهامه؛ فكان يرتقي الربوات ليكونوا من تحته؛ فيرميهم بالحجارة فيرديهم.. حتى لحق به رسول الله في نفر من أصحابه.. وهي الغزوة التي عُرفت بذي قرد.. وقد أعطاه رسول الله يومها سهمين من الغنائم.. سهم فارس وسهم راجل.

إنَّ سلمة وقد صغُرت في عينه الدنيا مع توقه لنيل الشهادة نُصرةً للحق.. يلقى عدوه حاسرا..  وعندما يهديه الرسول حجفة (درعا) لا يلبسها سلمة طويلا، فيلقاه رسول الله فيسأله: “أين حجفتك أو درقتك التي أعطيتك”؟ قال: قلت: يا رسول الله! لقيني عمي عامر عزلاً فأعطيته إياها.  قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (إنك كما قال الأول: اللهم أبغني حبيبا هو أحب إلي من نفسي).

صدق المعصوم صلوات ربي وسلامه عليه.. فلم يكن على الأرض أقرب لقلب سلمة بعد رسول الله من عمه عامر.. ودّ سلمة لو افتداه بحياته.. وكان يوم استشهاد عامر هو أصعب ما كابد سلمة في حياته، فلم يُعرف عنه الأسى والجزع إلا لحظة مصرع عامر في حرب خيبر.. “وكان عامر يرتجز أمام جيش المسلمين هاتفا: اللهمّ لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدّقنا ولا صلّينا فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا. في تلك المعركة ذهب عامر يضرب بسيفه أحد المشركين فانثنى السيف في يده وأصابت ذوّابته منه مقتلا.. فقال بعض المسلمين: “مسكين عامر حُرِمَ الشهادة”.

كان وقع تلك الكلمات على سلمة أقسى من ضربات السيوف وطعن الرماح.. ينخرط سلمة في بكاء شديد كاد يُزهق روحه.. ألم فوق احتمال الأبطال.. أيحرم صحبة عمه عامر في الجنة وهو أحب الناس إليه؟ كيف يقول بعض الناس عن عامر هذا القول الشنيع وهو من هو؟ يقول سلمة: فجئت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبكي، فقال: “ما يبكيك يا سلمة”؟ قلت: يا رسول الله، قال جماعة من أصحابك: بَطُلَ عمل عامر. قال: “كذب من قال ذلك بل له أجره مرتين وإنه الآن ليسبح في أنهار الجنة”.

عاش سلمة بالمدينة بعد وفاة رسول الله، وفي عهد أبي بكر وعمر.. فلما قُتل عثمان، خرج إِلَى الربذة، التي كان أبو ذر الغفاري قد أُخرج إليها مبعدا.. تزوج سلمة بالربذة  وكانت له ذرية ولم يزل هناك.. حتى ناهز الثمانين.. وقبل أن يحين موعد الرحيل بثلاث ليال.. أعاده الشوق إلى مدينة رسول الله.. فقضى بها ليلتين ومات في الليلة الثالثة.. ليدفن بالبقيع ملتحقا بمن رحلوا من أصحاب الحبيب محمد صلوات ربي وسلامه عليه.

وها هم المرابطون من أهلنا في غزة بالقرب من عسقلان التي قيل عنها أنها خير أرض للرباط.. يعيدون سيرة الأبطال الأولين على نحو بهر العالم أجمع، وأعاد الأمور إلى نصابها الصحيح ومحا الأكاذيب الرائجة حول قوة العدو ومنعته.. حتى أن شعوب أوروبا وأمريكا أفاقت من أوهام الميديا الغربية حول الكيان المحتل، وأعلنت دعمها للشعب الفلسطيني في وقفته البطولية أمام الإبادة الجماعية التي يمارسها هؤلاء المجرمون.. وهو أمر جلل يضاف إلى عوامل إضعاف الكيان العديدة؛ حتى أن أصواتا من داخل الكيان صارت تقول أن الهزيمة النهائية فد وقعت بالفعل، وأنه لا سبيل سوى الاعتراف بانتصار المقاومة، والتعامل مع الامر بواقعية.. لعلهم يدركون سبيل نجاة من سقوط بات حتميا ولا مناص منه.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock