عندما صدر كتاب الأستاذ عباس محمود العقاد عن خليفة رسول الله، أبوبكر الصديق، وكان بعنوان “عبقرية الصديق” أرسل نسخة إلى صديقه وغريمه الدكتور طه حسين، لكي يقرأها، وكان تعليق الأستاذ العميد بعد أن فرغ من القراءة: “قرأت ولم أفهم!”.
وعندما بلغ الأستاذ العقاد ما قاله عميد الأدب العربي عن كتابه قال: “على الدكتور طه أن يقرأ، قبل أن يقرأ لٍي، لكي يفهم!”.
بعدها بأسابيع سُئل الأستاذ العقاد ما الذي يقصده برأيه هذا تعليقا على ما عبّر عنه الدكتور طه أوضح الرجل ما قصده بقوله: “عندما أكتب عن أبي بكر رضي الله عنه، أو غيره من أعلام وقادة وساسة، على القارئ أن يقرأ كثيرا في الموضوع الذي أكتب عنه، لكي يفهم ما أكتبه، دون ذلك فالأمر ليس سهلا”.
واعتقادي أن الأستاذ العقاد، صادق في ذلك كل الصدق، بل مُحِق فيما قال، فكتاباته مُكثفة العبارة، تحمل من الوقائع والأحداث ما يحتاج شرحا وإيضاحا، تفرض على من يقرأ له أن يقرأ في الموضوع الذي شرع في معرفته عند العقاد، فلكي تفهم “عبقرية محمد” مثلا عليك أن تقرأ “حياة محمد” للدكتور محمد حسين هيكل و”الشيخان” و”الوعد الحق” و”على هامش السيرة” للدكتور “طه حسين” وهكذا.
عندما انتهيت من قراءة كتاب الأستاذ العزبي- توارد في خاطري تلك الواقعة النادرة في تاريخ الفكر والثقافة العربية، بين العميد والأستاذ بين، فالأستاذ العزبي هو من مدرسة الكتابة الرشيقة البسيطة والواضحة، هو من أعمدة مدرسة السهل المُمتنع، وهي -بالقطع- أقرب الى مدرسة طه حسين لا العقاد، غير أن الاتفاق بين الأستاذ العزبي والأستاذ العقاد، هو في ضرورة أن يكون القارئ لكتاب “الصحافة والحكم” و”كناسة الصحف” وغيرهما من كُتب الأستاذ العزبي، أن يكون قارئا جيدا للصحافة المصرية والعربية وبعض الصحف العالمية، بالإضافة الى الاطلاع على الكُتب والدراسات الجادة في قضايا الفكر والثقافة والتاريخ، فضلا عن متابعة ذكية لم تذيعه أجهزة الإعلام من برامج تلفزيونية وحوارية.
من الصعب للدلالة على صحة ما أقول، التوقف عند كل فصول كتاب “الصحافة والحكم” فقد زادت عن سبعين عنوانا، طاف بِنَا ومعها الأستاذ العزبي عالمه العجيب والمُثير، فشملت الأفق الصحفي والسياسي والإعلامي في هذا الزمان، أو زمن عاشه وعشته معه قارئا ومُتابعا.
خذ مثلا: ذكريات الاعتقال في نهاية عقد الستينيات، الى الفصل من العمل الصحفي في عام ٧٢ بتهمة التضامن والتعاطف مع مظاهرات طلاب الجامعات في فبراير من نفس العام وحكاية محمد عثمان اسماعيل، يد السادات في قطع الأرزاق والذي تولّى رئاسة لجنة النظام في الاتحاد الاشتراكي بفصل مئات الصحفيين من عملهم في بداية سنة ١٩٧٢، والذي كان يُلقّب بمكارثي مصر، نسبة إلى السناتور الأمريكي چوزيف مكارثي الذي أثار الرُعب في حياة الشعب الأمريكي في خمسينيات القرن الماضي بمحاكمة وفصل آلاف الفنانين والمثقفين من أعمالهم، بتهمة اعتناق الشيوعية!
ومن محمد عثمان اسماعيل، يد السادات الباطشة، ينتقل الأستاذ العزبي إلى موقف رئيس التحرير النبيل مصطفى بهجت بدوي، الذي كان يوزع على صحفيي جريدة الجمهورية المفصولين بعض من مرتباتهم سرا لإطعام أطفالهم، إلى حكايات فتحي غانم الروائي العملاق، ورئيس التحرير المسلوب الإرادة، الذي لم يبق من ذكراه غير ما كتبه من أعمال إبداعية، لعل أهمها “زينب والعرش” و”الرجل الذي فقد ظله” وآخر أعماله “الأفيال” والتي تنبّأ فيها بموجة الإسلام السياسي الإرهابي، واستشراء جماعاته السرطانية في جسد الوطن.
كتاب مُمتع شديد الإمتاع، فقد طاف بِنَا إلى عالم النميمة الصحفية والسياسية.. فمن حكايات الشيخ الفاسي الذي أفسد كثيرا من الصحف والكثير من الصحفيين ورجال الإعلام والدولة والسلطة في عصر السادات ومبارك، إلى تلك الحكاية الحزينة عن موت علي حمدي الجمّال مقهورا في واشنطن بعد أن عُومل بقسوة وعنف وكلمات نابية من الرئيس السادات، إلى حكاية السخرية من نقيب الصحفيين المصريين صلاح جلال بلسان الرئيس السادات أيضا، إلى مواقف ونوادر وشطحات صافي ناز كاظم، وزميلتها في الشطط نوال السعداوي، وزوجها الوديع الهادئ شريف حتاتة، الزوج السابق، وبينهما أمل الجمل التي ذهبت للبحث في الحياة الإبداعية للزوجين، فخرجت بزوج وكتاب، تزوجت الدكتور شريف، وألفت كتابا عن أعماله، ونالت سخطا من الدكتورة نوال، هي ومعها كل الرجال!
في عقد الثمانينيات من القرن الماضي، أصدر الأستاذ ناصر الدين النشاشيبي، أحد رؤساء التحرير في جريدة الجمهورية في عهد الرئيس عبدالناصر -الذي لم يُفرِق بين مصري وأي مواطن عربي، فالأستاذ النشاشيبي كان من أبناء القدس العربية، وقد أصدر كتابا أسماه “حضرات الزملاء المُحترمين” تحدث فيه النشاشيبي عن الصحافة والصحفيين في مصر بطريقة وضيعة وكاذبة في كثير مما ورد في كتابه هذا، فلم يترك نقيصة إلا وألصقها بها وبهم، فقد لطّخ سمعة الأستاذ أحمد بهاء الدين، ولم يصيب الأستاذ هيكل، إلا بكل نقيصة وأذى. الأستاذ العزبي أشار سريعا الى هذا الكتاب، ولم يتوقف عنده كثيرا، فهو يعرف مضمونه وأنا كذلك، غير أن ذكري أو تذكُري لهذا “الكتاب الناقص” يرجع إلى فكرة وردت في ذهني، أعادها إلى الذاكرة كتاب الأستاذ العزبي، وربما تكون موضعا لدراسة علمية أكاديمية جادة، تتحدث عن الصحافة والصحفيين في مصر، والمادة العلمية والتاريخية لهذا الموضوع متوافرة، فقد كتب موسى صبري، كتابه “٥٠ عاما في قطار الصحافة” وكتب الأستاذ هيكل “بين الصحافة والسياسة” وكذلك فعل صلاح عيسى في “شخصيات لها العجب” وأضاف جميل عارف إلى هذه القائمة كتابا مُثيرا هو “بارونات الصحافة” وما كتبه الأستاذ العزبي، هو من تلك الكتابات المُحترمة التي كُتبت عن هذا العالم المُثير للجدل بكل احترام وعفة ونزاهة وجمال.
عند هذا الحد أتوقف عمّا أشرت إليه سريعا لبعض مما احتواه كتاب “الصحافة والحكم” بيد أنني أجد في نفسي رغبة لا تقاوم للتوقف عند موضوعين توقف عندهما الأستاذ العزبي بقدر من الإيضاح، أولهما ما يتعلق بالأستاذ هيكل، والثاني عن “اليهود والشيوعية في مصر”.
موضوعان مُثيران، يستحقان التوقف عندهما بالحديث وربما الإضافة، فضلا عن التحية لصاحب الكتاب، الذي أثار من الذكريات والشجون ما يستحق توجيه عظيم الاحترام وخالص الحُب وصادق الدُعاء.