ضمن عديد من الأمثلة على حرف “الألف” مؤشرا دلاليا؛ وإضافة إلى أمثلة مُتعددة، كنا قد تناولناها في أحاديث سابقة، سنحاول في حديثنا هذا الاقتراب من مصطلحات قرءانية أُخرى، تؤشّر إلى مدى ما يُمثله هذا الحرف من أهمية دلالية، ضمن سياق آيات التنزيل الحكيم.
وكما أكدنا ونُعيد التأكيد، فإن هذا الحرف، من خلال رحلتنا معه، يأتي ليُعبر عن إحدى أهم الظواهر في الرسم القرءاني، من حيث اختلاف دلالة المصطلح باختلاف الرسم القرءاني له؛ نعني مجيء اللفظ الواحد مرسوما بألف في موضع، وبغير ألف في موضع آخر. ومن المنطقي أن هذا الاختلاف في “المبنى”، يترتب عليه اختلاف في “المعنى”؛ وبالتالي، تختلف دلالات اللفظ بحسب اختلاف الرسم القرءاني لحرف الألف.
مصطلح “قَرَارٖ”
ورد لفظ “قرار”، في آيات التنزيل الحكيم، في مرات تسع؛ حيث ورد “قَرَارٖ” أربع مرات، و”قَرَارٗا” مرتين، و”ٱلۡقَرَارُ” في مرات ثلاث. وفي هذه المرات التسع، ورد اللفظ مع ثتبيت حرف الألف، للدلالة على الجانب المادي، العضوي، للمصطلح.
ولنا أن نلاحظ، أن “قرارًا” أي ذات قرار، بمعنى يُستَقَرُ بها وتُعمَّر، و”القرار” المكان الذي يستقر الماء فيه؛ و”قرار” من المصدر قرَّ، أي أصبح ثابتًا لا يهتز ولا يضطرب، أي ثبت وسكن، كما في قوله تعالى: “وَقَرۡنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ ٱلۡأُولَىٰۖ…” [الأحزاب: 33].
ولعل الجانب المادي، العضوي، للمصطلح “قَرَارٖ”، يتبدى عبر تثبيت حرف الألف؛ كما في قوله سبحانه: “أَلَمۡ نَخۡلُقكُّم مِّن مَّآءٖ مَّهِينٖ ٭ فَجَعَلۡنَٰهُ فِي قَرَارٖ مَّكِينٍ ٭ إِلَىٰ قَدَرٖ مَّعۡلُومٖ” [المرسلات: 20-22]؛ وأيضًا، كما في قوله تعالى: “وَلَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ مِن سُلَٰلَةٖ مِّن طِينٖ ٭ ثُمَّ جَعَلۡنَٰهُ نُطۡفَةٗ فِي قَرَارٖ مَّكِينٖ” [المؤمنون: 12-13]. إذ، يأتي الجعل “فِي قَرَارٖ مَّكِينٍ”، في الآيتين الكريمتين، مترابطًا مع الخلق “مِّن مَّآءٖ مَّهِينٖ” في الآية الأولى، والخلق “مِّن طِينٖ” في الثانية؛ وهي سياقات مادية عضوية في الآيتين.
وهي ذات الدلالة المادية العضوية التي يحملها مصطلح “قَرَارٖ”، في قوله سبحانه: “وَجَعَلۡنَا ٱبۡنَ مَرۡيَمَ وَأُمَّهُۥٓ ءَايَةٗ وَءَاوَيۡنَٰهُمَآ إِلَىٰ رَبۡوَةٖ ذَاتِ قَرَارٖ وَمَعِينٖ” [المؤمنون: 50]؛ وفي قوله تعالى: “وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٖ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ٱجۡتُثَّتۡ مِن فَوۡقِ ٱلۡأَرۡضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٖ” [إبراهيم: 26]. وهنا، تأتي “ذَاتِ قَرَارٖ” صفة مُحددة لـ”رَبۡوَةٖ”، في الآية الأولى، حيث الثبات والاستقرار والسكن؛ وفي الآية الثانية، يأتي نفي هذا الثبات والاستقرار عبر التعبير القرءاني “مَا لَهَا مِن قَرَارٖ”.
مصطلح “ٱلۡقَرَارُ”
ومثلما هو الحال في ورود مصطلح “قَرَارٖ”، عبر تثبيت حرف الألف للدلالة على الجانب المادي، العضوي، للمصطلح؛ فقد ورد المصطلح، أيضًا، مُعرفًا بـ”أل” التعريف، للدلالة على نفس الجانب، المادي العضوي؛ وذلك كما في قوله سبحانه وتعالى: “أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ كُفۡرٗا وَأَحَلُّواْ قَوۡمَهُمۡ دَارَ ٱلۡبَوَارِ ٭ جَهَنَّمَ يَصۡلَوۡنَهَاۖ وَبِئۡسَ ٱلۡقَرَارُ” [إبراهيم: 28-29]. إذ، يأتي التعبير القرءاني “وَبِئۡسَ ٱلۡقَرَارُ” قدحًا لـ”جَهَنَّمَ”، التي سوف تُصبح مُستقرًا، ماديًا وعضويًا، لأولئك “ٱلَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ كُفۡرٗا”. وهو نفسه التعبير القرءاني الذي ورد في موضع آخر، قدحًا لـ”جَهَنَّمَ”، أيضًا؛ كما في قوله سبحانه: “قَالُواْ بَلۡ أَنتُمۡ لَا مَرۡحَبَۢا بِكُمۡۖ أَنتُمۡ قَدَّمۡتُمُوهُ لَنَاۖ فَبِئۡسَ ٱلۡقَرَارُ” [ص: 60].
ولأن “جَهَنَّمَ” ستُصبح “ٱلۡقَرَارُ” لصنف مُعين من الناس؛ فإن “ٱلۡآخِرَةَ” ستكون “هِيَ دَارُ ٱلۡقَرَارِ”، أي المنزل والمستقر، لكل الناس؛ وذلك كما في قوله سبحانه: “يَٰقَوۡمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا مَتَٰعٞ وَإِنَّ ٱلۡآخِرَةَ هِيَ دَارُ ٱلۡقَرَارِ” [غافر: 39]. وكما هو واضح، فقد حدد سياق الآية الكريمة مُقابلة بين “ٱلۡأٓخِرَةَ” التي هي “دَارُ ٱلۡقَرَارِ”، وبين “ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا” التي هي مجرد “مَتَٰعٞ”؛ وهو سياق دال على الجانب المادي العضوي لهذه وتلك.
“فِرَٰشٗا” و”قَرَارٗا”
كنا في حديثنا السابق، حول “الرسم القرءاني.. ودلالة مصطلحي فِرَٰشٗا وبِنَآءٗ”، قد تناولنا لماذا وردت “فِرَٰشٗا” دون تثبيت حرف الألف، في حين وردت “بِنَآءٗ” مع تثبيت الحرف. لكننا هنا، سوف نُبدي ملاحظة حول المصطلحات الثلاثة “قَرَارٗا” و”فِرَٰشٗا” و”بِنَآءٗ”.
إذ، لنا أن نُلاحظ أن مصطلح “قَرَارٗا” قد ورد صفة لـ”ٱلۡأَرۡضَ”.. يقول سبحانه وتعالى: “أَمَّن جَعَلَ ٱلۡأَرۡضَ قَرَارٗا وَجَعَلَ خِلَٰلَهَآ أَنۡهَٰرٗا وَجَعَلَ لَهَا رَوَٰسِيَ وَجَعَلَ بَيۡنَ ٱلۡبَحۡرَيۡنِ حَاجِزًاۗ أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ” [النمل: 61]. وكما هو واضح، فقد ورد لفظ “قَرَارٗا”، الذي يأتي في إطار تثبيت حرف الألف، إنما يأتي في سياق من المصطلحات القرءانية الدالة على جوانب مادية، عضوية، لـ”ٱلۡأَرۡضَ”؛ نعني سياق “قَرَارٗا… أَنۡهَٰرٗا… ٱلۡبَحۡرَيۡنِ… حَاجِزًاۗ”.
لكن، من جهة أُخرى، لنا أن نُلاحظ، رغم ورود مصطلح “قَرَارٗا” صفةً للأرض، مع تثبيت حرف الألف، فقد ورد مصطلح “فِرَٰشٗا” كصفة للأرض” أيضًا، ولكن دون هذا التثبيت؛ وفي الحالين، فقد ورد كل من المصطلحين مع مصطلح “بِنَآءٗ” صفةً لـ”ٱلسَّمَآءَ”.
بالنسبة إلى مصطلح “قَرَارٗا”، وإضافة إلى وروده في سورة النمل [النمل: 61]، فقد ورد في قوله سبحانه: “ٱللَّهُ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ قَرَارٗا وَٱلسَّمَآءَ بِنَآءٗ وَصَوَّرَكُمۡ فَأَحۡسَنَ صُوَرَكُمۡ وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡۖ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ” [غافر: 64]. وهنا، يأتي المصطلح للدلالة على الجانب المادي، العضوي، لـ”ٱلۡأَرۡضَ”، من حيث إنها مكان الثبات والاستقرار، والسكن وعدم الاضطراب.
أما “فِرَٰشٗا”، التي وردت في آيات التنزيل الحكيم، هي ومشتقاتها، في مرات “ست”، اثنتان منها بوصفهما مصطلحين يختصان بـالأرض.. وذلك كما في قوله سبحانه: “وَٱلۡأَرۡضَ فَرَشۡنَٰهَا فَنِعۡمَ ٱلۡمَٰهِدُونَ” [الذاريات: 48].. وكما في قوله تعالى: “ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ فِرَٰشٗا وَٱلسَّمَآءَ بِنَآءٗ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجَ بِهِۦ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزۡقٗا لَّكُمۡۖ فَلَا تَجۡعَلُواْ لِلَّهِ أَندَادٗا وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ” [البقرة: 22].
وكما يبدو، فقد وردت “فِرَٰشٗا”، في الآية الكريمة [البقرة: 22]، محذوفة الألف، أو دون تثبيت حرف الألف، للدلالة على الجانب الوظيفي، المعنوي، لمصطلح “فِرَٰشٗ”. إذ، لنا أن نُلاحظ أن المصطلح يدل على الاختلاف النوعي في “فراش” الأرض، واختلاف تضاريس هذا الفراش من مكان لآخر؛ هذا، فضلًا عن الاختلاف في الجوانب الوظيفية، والمعنوية، ومدى تأثيرها على حياة الكائنات الحية على سطح الأرض التي نعيش عليها، بما فيها الإنسان؛ ما بين سهول وصحاري، أنهار وبحار، برودة وحرارة.. وهكذا.
أما “بِنَآءٗ”، فقد وردت في آيات التنزيل الحكيم، في مرتين، للإشارة إلى الـ”بِنَآءٗ” الخاص بـ”ٱلسَّمَآءَ”؛ كما في قوله تعالى: “ٱللَّهُ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ قَرَارٗا وَٱلسَّمَآءَ بِنَآءٗ وَصَوَّرَكُمۡ فَأَحۡسَنَ صُوَرَكُمۡ وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡۖ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ” [غافر: 64].. وكما في قوله تعالى: “ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ فِرَٰشٗا وَٱلسَّمَآءَ بِنَآءٗ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجَ بِهِۦ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزۡقٗا لَّكُمۡۖ فَلَا تَجۡعَلُواْ لِلَّهِ أَندَادٗا وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ” [البقرة: 22].
وهنا، لنا أن نُلاحظ الفارق بين كل من “فِرَٰشٗا” و”بِنَآءٗ”، من حيث ورود الأخيرة ثابتة الألف، في حين وردت الأولى محذوفة الحرف، أي دون تثبيت حرف الألف؛ وهو ما يُشير إلى أنه في الوقت الذي تدل فيه “فِرَٰشٗا”، على الاختلاف النوعي في فراش الأرض، للإشارة إلى الجوانب المعنوية، والوظيفية، لهذا الـ”فِرَٰشٗ”؛ فإنه، في الوقت نفسه، تأتي “بِنَآءٗ”، التي ترد بهذا الرسم القرءاني، لتدل على الجانب المادي، العضوي؛ من حيث إن “بناء السماء” هو بناء مُتشابه حين النظر إليه، من أية زاوية ومن أي مكان، ومن أية قارة يقف عليها الإنسان.
وللحديث بقية.