تأتي مركزية قضية “الصحراء الغربية”، لتُعبر عن إشكالية كبرى في السياسة الخارجية الجزائرية؛ وهو ما يتبدى بوضوح في حال ملاحظة العلاقات الجزائرية مع إسبانيا بوصفها نموذجا دالا في هذا الإطار، إذ رغم بوادر الانفراجة التي كانت قد لاحت، في أُفق العلاقات بين الجزائر وإسبانيا، في نوفمبر الماضي، مع تواتر الأخبار عن عودة السفير الجزائري إلى مدريد بعد 19 شهرا من مُغادرته المنصب، تعبيرا عن الخلافات بين البلدين؛ إلا أن تلك الانفراجة قد تراجعت خطوات إلى الوراء، في إثر تعليق زيارة وزير الخارجية الإسباني، خوسيه مانويل ألباريس إلى الجزائر التي كان مقررا لها الإثنين الماضي.
وفي الوقت الذي كان من المفترض أن تكسر فيه زيارة ألباريس عامين من القطيعة، بين الجزائر وإسبانيا، فإن تأجيلها قد أعاد إلى الأذهان التساؤلات حول دوافع ومآلات استمرار الخلافات بين البلدين؛ خاصة أن تأجيل الزيارة أو تعليقها بالأحرى، جاء بطلب من السلطات الجزائرية، بسبب “عدم حسم بعض الملفات التي كان مُقررًا طرحها للمباحثات خلال الزيارة”، بحسب بيان وزارة الخارجية الجزائرية.
الخلافات المستمرة بين الجزائر وإسبانيا تتمحور حول ثلاثة أسباب رئيسة:
أولًا، تنامي العلاقات بين إسبانيا والمغرب: حيث ترى الجزائر، محاولة إسبانيا في التقارب مع المغرب، نوعًا من الدعم لها في قضية الصحراء؛ وفي قضية الغاز النيجيري أيضا، وهو الغاز الذي تتنافس عليه كل من الجزائر والمغرب، لتوصيله إلى أوروبا، عبر مشروعين منفصلين “الطريق العابر للصحراء” الجزائري، و أنبوب ” غاز الرباط – أبوجا” المغربي.
والمُلاحظ، أن التقارب الإسباني مع المغرب، لا يعتمد فقط على مسألة الغاز،
الذي تستورده إسبانيا من الجزائر، بعد أن رفعت الأخيرة أسعاره “ثلاث” مرات؛ ولكن أيضا، الرغبة الإسبانية في طرح ملف “ترسيم الحدود البحرية” مع المغرب، وإنهاء مشكلات هذا الملف عبر التفاهمات السياسية بين الرباط ومدريد.
ثانيًا، الموقف الإسباني من قضية الصحراء الغربية؛ حيث تبدو هذه القضية، بمثابة القضية الرئيسة في الخلاف الحاصل بين البلدين، طوال الفترة السابقة، التي بدأت منذ 8 يونيو 2022. وقد كان مُقررًا أن تأخذ زيارة وزير الخارجية الإسباني شكل “تطبيع” للعلاقات الثنائية، بعد القطيعة بينهما، تجاريًا وسياسيًا، وبعد سحب السفير الجزائري من مدريد، وتعليق اتفاق “الصداقة وحسن الجوار” الموقع بينهما في عام 2002.
واللافت، أن هذه القطيعة في العلاقات، كانت قد جاءت كـ”نتيجة” لإعلان رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز، تغيير الموقف الإسباني من قضية الصحراء الغربية، والتوجه إلى “دعم فكرة الحكم الذاتي” التي طرحها المغرب كحل لمشكلة الصحراء؛ وهو ما اعتبرته الجزائر انحيازا إسبانيا إلى الجانب المغربي.
بناءً على ذلك، وبناء على تغير موقف إسبانيا، من دعم القرارات الأممية الداعمة لحق تقرير المصير للشعب الصحراوي -التي تتبناها الجزائر- إلى دعم فكرة الحكم الذاتي التي يتبناها المغرب؛ قطعت الجزائر التبادل التجاري بالكامل، والعلاقات السياسية والدبلوماسية مع إسبانيا.
ثالثًا، تعامل وسائل الإعلام الإسبانية مع ملف الصحراء: إذ تأتي مسألة تأجيل زيارة ألباريس إلى الجزائر، كتعبير عن الغضب الجزائري من عدم التغير في الموقف الإسباني من قضية الصحراء. رغم ذلك، فهو ليس السبب الوحيد؛ حيث يأتي ضمن أسباب التأجيل، واستمرار الخلافات بين الجانبين، تعامل وسائل الإعلام الإسبانية مع قضية الصحراء.
فقد نشرت وسائل إعلام إسبانية وثيقة من الجريدة الرسمية الإسبانية، تصف “مدينة العيون” كبرى مدن الصحراء الغربية بالمغربية؛ وهو ما اعتبرته الجزائر اعترافا إسبانيًا بمغربية الصحراء بشكل رسمي. وهو ما نتج عنه تأجيل الزيارة، التي كان من المفترض أن يُناقش خلالها موقف مدريد من ملف الصحراء. وكما يبدو، فإن الجزائر كانت تُريد المُقايضة، بين إعلان إسبانيا “إعلانًا صريحًا” بعودتها إلى موقفها الأول، الذي يدعم القرارات الأممية الداعمة لحق تقرير مصير الشعب الصحراوي؛ في مُقابل رفع الحظر عن المبادلات التجارية.
يتبدى عدد من المؤشرات في المستقبل المنظور، بشأن مركزية الصحراء في الخلافات بين الجزائر وإسبانيا واستمرارها على أكثر من جانب.. وذلك كما يلي:
من جانب، استغلال توقيت الزيارة للضغط على مدريد؛ فبالرغم من أن تأجيل زيارة وزير الخارجية الإسباني إلى الجزائر، قبل موعد الزيارة بأقل من 12 ساعة فقط، يُمثل خرقًا واضحًا للأعراف الدبلوماسية، إلى الدرجة التي يُمكن معها وصفه بـ”غير اللائق”؛ إلا أن هذا التأجيل كان ضمن أدوات الضغط الجزائري على مدريد.
يبدو ذلك من ملاحظة توقيت الزيارة، وتأجيلها، أو تعليقها؛ خاصة أنه يأتي مع اقتراب محطة انتخابية رئيسة وحاسمة، تختص باقتراب انتخابات البرلمان الأوروبي، وحساباتها المنعكسة على إسبانيا، والتي أفرزت الصراع الناشب حاليًا بين مكونات التشكيلة الحكومية، التي يترأسها رئيس الوزراء الإسباني سانشيز.
من جانب آخر، تغيير الشراكة الاستراتيجية في الغاز لإيطاليا؛ إذ يأتي قرار الجزائر بتوجيه الشراكة الاستراتيجية المتعلقة بالغاز الجزائري، نحو إيطاليا بدلا من إسبانيا، كنوع من ممارسة الضغط على مدريد، لأجل تغيير موقفها من قضية الصحراء؛ وهي مسألة سوف تستمر خلال الأجل المنظور، خاصة أن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، كان هو من أعلن بنفسه، أن “إيطاليا ستكون الموزع الرئيسي للغاز الجزائري إلى أوروبا”، خلال مؤتمر صحافي، أثناء زيارته روما، مع نظيره الإيطالي سيرجيو ماتاريلا، في مايو 2022.
أضف إلى ذلك، أن التأجيل يأتي في نهاية الأسبوع الذي شهد تقديم أوراق اعتماد السفير الإسباني إلى المغرب، وهي دلالة على مسألة الضغوط الجزائرية المتواصلة على مدريد، في محاولة لدفع الأخيرة إلى تغيير موقفها من قضية الصحراء.
من جانب أخير.. ستطال إسبانيا والجزائر خسائر اقتصادية؛ فالقطيعة بين البلدين طوال حوالي عشرين شهرًا، ساهمت في خسائر كبيرة للمؤسسات ورجال الأعمال في كليهما؛ وهي الخسائر التي قدرت تبعًا لبعض التقارير، بحوالي مليار يورو، منذ بدء الأزمة إلى منتصف العام الماضي 2023.
وبحسب الخبير الاقتصادي الجزائري، رمضان لعلا، في حوار مع “إندبندنت عربية”، في 5 نوفمبر الماضي، 2023، فإن التبادلات البينية بين الجزائر وإسبانيا، تتراوح سنويًا بين 7-9 مليارات دولار، وهي أرقام مهمة من منظور دلالتها الاقتصادية. هذا، فضلًا عن أن الجزائر تعتبر الشريك الثاني لإسبانيا، في ما يتعلق بإمدادات الغاز؛ ولكن مع مراجعة الأسعار من جانب الجزائر، فقد تكلف الاقتصاد الإسباني خسائر بلغت 100 مليون دولار.
هذا، بالإضافة إلى الخسائر التي تكلفها الاقتصاد على الجانب الآخر، حيث اضطرت الجزائر إلى تغيير وجهات الاستيراد، بخصوص بعض المنتوجات كالدواجن والبيض، وغيرهما، بما تسبب في ظاهرة الندرة والغلاء المتزايد في السوق الجزائري، لعدد من السلع.
مركزية الصحراء
في هذا السياق، يُمكن القول بأن استمرار الخلافات بين الجزائر وإسبانيا، إنما يعتمد في أهم مرتكزاته على قضية خلافية رئيسية، تتعلق بالمقف الإسباني من قضية الصحراء الغربية، ودعمها لفكرة “الحكم الذاتي” التي اقترحتها المملكة المغربية لحل الأزمة الصحراوية. وفضلًا عن التقارب الجغرافي، بين البلدين من حيث كونهما “جارين متوسطين”؛ إلا أن المصالح الأمنية المشتركة، خاصة تلك المتعلقة بملف الهجرة غير الشرعية، يأتي كملف إضافي إلى مجموع الملفات التي تحاول بها الجزائر الضغط على مدريد؛ بما يؤكد على ما تُمثله “مركزية الصحراء” من إشكالية في السياسة الخارجية الجزائرية.